الزوجة هي أقرب الناس إلى الرجل، وأكثرهم ملازمة له، وبالتالي فهي أول من يلحظ عليه أي تغير في صورته أو طبعه. وهي إن أبدت ملاحظاتها ولو من باب الشفقة والحنو فإنه ربما عدها تشفياً وشماتة؛ وبخاصة بعدما يكبر وتسوء صحته النفسية، فيشعر أن زوجته تذكره بضعفه، وتثير مأساته، وتلفت نظره إلى أنه تجاوز مرحلة الشباب. والمرأة، لا تحب أن ترى الرجل إلا في صورة الرجل الشاب، بما يحمله الشباب من معاني القوة والنشاط. وهي تتوهم أن الزمن لن يهدم قوتها وشبابها. ومن هؤلاء النسوة زوج عبيد بن الأبرص فقد غضبت ونوت الانصراف عنه زعماً منها أنه كبر، فذكَّرها بأن وقت الدلال قد انتهى، فذلك حين كانت كالمهاة، وهو كان فتياً؛ ترحب به الغواني، ويفدينه بالنفس والمال: تلك عرسي غضبى تريدُ زِيالي أَلِبَينٍ تُريدُ؟ أَم لدَلالِ؟! إن يكن طِبُّك الفراقَ فلا أَحْفلُ أن تعطفي صدورَ الجِمال أو يكن طِبُّكِ الدَلالَ فلَو في سالفِ الدَهرِ واللَيالي الخَوالي ذاك إذ أنتِ كالمهاةِ وإِذ آ تِيكِ نشوانَ مُرخِيًا أَذيالي زعمتْ أَنَّني كَبِرتُ وأَنّي قلَّ مالي وضَنَّ عنّي المَوالي وصحا باطلي وأصبحت شيخا لا يواتي أمثالها أمثالي وراح يستعرض نزواته زمن الصبا التي لا تنكرها، لكنها تريد لتلك الحال الدوام: ولقد أَدخُلُ الخِباءَ عَلى مَهضومَةِ الكَشحِ طَفلَةٍ كَالغَزالِ فَتَعاطَيتُ جيدَها ثُمَّ مالَت مَيَلانَ الكَثيبِ بَينَ الرِمالِ ثُمَّ قالَت فِدىً لِنَفسِكَ نَفسي وَفِداءٌ لِمالِ أَهلِكَ مالي ولعل الأمور لم تتحسن بين عبيد وزوجه فبحثت عن حجة لتركه، فقالت له: (كبرتَ)! ومع قسوة وقع هذه الكلمة عليه لم ينكر ذلك، ومنعها من أن تمضي في ازدرائه، وخيَّرها بين البقاء معه ومفارقته، يقول: فقالت لي: كبرتَ فقلت: حقا لقد أخلفتُ حينا بعد حيـن فقلت لها رويدك بعض عتبي فإني لا أرى أن تزدهيني وعيشي بالذي يغنيك حتى إذا ما شئت أن تنأي فبيني ويوضح أحد الباحثين السبب الحقيقي لنفور زوج عبيد منه، فيقول: «وأظن أن ذلك ما كان إلا لما لمسته فيه من ضعف وعجز جنسي، فغاب التكافؤ بينهما في هذه المرحلة من العمر، فكانت شكواها هذه قد أصابته في فحولته ورجولته، وأحدثت في كبريائه جرحا غائرا، بصراحتها القاسية، وهو يعلم صدقها فيما تقول، فما كان منه حفاظا على كرامته المجروحة، إلا أن خيرها بين الإقامة معه وبين الطلاق منه»(1). وتعرَّض امرؤ القيس لموقف شبيه بموقف عبيد لكنهما اختلفا في الرد. يقول امرؤ القيس: ألا زعمت بسـباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي كذبتِ، لقد أُصبي على المرء عرسَه وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي فقد دافع عن نفسه بتكذيب ادعاء زوجه بأسلوب لا يخلو من فظاظة؛ استخدم اللفظ الصريح (كذبتِ)، مؤكدا أن تقدم العمر لم يؤثر في همته، ولا في قدرته على استمالة النساء إليه. ومن الذين لم يوفقوا في الدفاع عن نفسه دريد بن الصمة، فقد أخذ يستدعي الماضي، ويعدد بطولاته السابقة وانتصاراته في المعارك التي خاضها، وهي لم تشكّ في هذا مطلقا، لكنها تريده فارسها كما كان فارس قومه. فيقول: يا هند لا تنكري شيبي ولا كبري فهِمَّتي مثـل حد الصـارم الذَّكّرِ ولي جَنان شديد لو لقيت بـه حوادث الدهر ما جارت على بشر وكان أحد الشعراء أكثر صراحة مع زوجه حين هزئت بضعفه وانحناء ظهره، فرد عليها محملا إياها مسؤولية ضعفه الحالي، بقوله: هزئت عميرة أن رأت ظهري انحنى ومفارقي علَّتْ بماء خضاب لا تهزئي مني عميرة إنني أنفقت فيكم شرتي وشبابي وقد لا تخرج الزوج من بيت زوجها فتبقى معه، لكنها تزدريه وتحتقره كما حدث لزهير بن جناب، حين زجر امرأته، فنهرته وقالت: اسكت عني وإلا ضربتك بهذا العمود، فقال: مُعَزِّبَتي عند القَفا بِعمودِها يكونُ نَكيري أَن أَقولَ ذَريني أَمينا على سِرِّ النساءِ وربما أَكونُ على الأَسرارِ غيرَ أمينِ وللموتُ خيـرٌ من حِداجٍ مُوَطَّأٍ معَ الظعنِ لا يأتي المَحَلَّ لِحينِ وغير بعيد عن هذا النمر بن تولب العكلي الذي عاش مائتي سنة - حسب ما أورد السجستاني - حتى أصبح في نظر زوجه غير ذي بال، فهي لا تدعوه باسمه وكأن لم يكن له اسم يعرف به، بل تدعوه بـ (الشيخ) من باب الاحتقار لا التبجيل، وتتركه ينام مبكرا في معزل من البيت، في حين تنفرد وأبناؤها بالمكان الأثير والفراش الوثير: لعمري لقد أنكرت نفسي ورابني مع الشيب أبدالي الذي أتبدل وتسميتي شيخاً وقد كان قبله لي اسم فلا أدعي به وهو أول وزهدي فيكفيني اليسير وإنني أنام إذا أُمسِى ولا أتعـلل وظلعي - ولم أُكسَر - وإن حليلتي تحوز بنيها في الفراش وأُعزَل وإذا كانت المرأة شاعرة فإنها تعبر عن كرهها زوجَها الشيخ، وبغضِها إياه شعراً، كما فعلت أعرابية شاعرة زفت إلى ابن عمها الشيخ، فقالت منتقدة عادة العرب في تزويج الأقارب دون النظر لأي اعتبار آخر: أيا عجباً للخود يجري وشاحها تزف إلى شيخ من القوم تنبال دعاها إليه أنه ذو قرابة فويل الغواني من بني العم والخال أما إذا كان الزوجان شاعرين، وبدأها بالهجاء فإنها سترد له الصاع صاعين، كما هو حال زوج أبي العاج الكلبي، إذ ردت على هجائه إياها بقولها: شنِئْتُ الشيوخ وأبغضتهم وذلك من بعض أفعاليه ترى زوجة الشيخ مغبرة وتمسي لصحبته قالية فلا بارك الله في عرده ولا في عظام استه البالية وروى المبرد أن شيخاً من الأعراب نظر إلى امرأته تتصنع وهي عجوز، فقال: عجوز تُرَجِّي أن تكون فتية وقد لُحِب الجنبان واحدودب الظهر تمد إلى العطار سلعة بيتها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟! _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ (1) حمدي منصور: (الهرم وشكوى الدهر) مجلة (دراسات - الجامعة الأردنية) المجلد 39 العدد3 سنة 2012، ص741.
مشاركة :