مما لا شك فيه أن المتأمل لواقع الصحافة الورقية يدرك أنها تعانى من أزمة حقيقية في الإنتاج والتوزيع، أثر ذلك بالطبع على اقتصاديات الصحف الورقية، إضافةً إلى أن عدم وجود دراسة جدوى لدى الصحف الورقية جعلها تخسر كثيرًا على مدى عقود من الزمن، وذلك لأن الاستثمار في المجال الإعلامى لا يحكمه عوامل استثمارية، بل معظم الوسائل الإعلامية، وخاصةً أن بعض الصحف الورقية تعمل كأداة دعاية في كثير من الأحيان أكثر منها أداة إعلام. لكن أقوى الأسباب التى جعلت الصحف كلها تخسر، وتحديدًا القومية، هو بالتأكيد أنه لا يوجد محتوى صحفى جيد ومتميز يُقدم للقارئ، فالصحف القومية بالذات تعانى منذ زمنٍ بعيد من أن مساحة النقد فيها محدودة للغاية، وبالتالى هى أقرب لنشرة دعاية طول الوقت، حتى التغطية الخبرية فيها منقوصة ومتأخرة ومصداقيتها أقل، ومع انتشار الإنترنت والسوشيال ميديا، وقدرة الجمهور على معرفة الأخبار في لحظتها، فمن الطبيعى أن تتجاهل الناس شراء الصحف الورقية. وفى هذا الصدد يتفق الباحثون في إطار المدارس الأكاديمية المختلفة، والممارسون لمهنة الصحافة على أن صناعة الصحافة المطبوعة تواجه أزمة بقاء أو وجود، تهدد وجودها وكيانها ذاته، وتؤثر سلبًا في قدرتها على الاستمرارية والصمود في ظل أسواق المنافسة السائدة، وفى مواجهة الصحافة الإلكترونية بتطبيقاتها المختلفة، بل وفى مواجهة شبكات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث الشهيرة، التى أصبحت منافسًا قويًا وحقيقيًا لها، يفوق في قدراته وتأثيره البدائل الأخرى المعروفة. وهذه الأزمة تمتد بجذورها لعقود طويلة مضت، حين بدأت الصحافة منذ بدايات عقد الستينيات تواجه تحديات قوية جراء المنافسة مع التليفزيون، والتى أدت في النهاية إلى تراجع أرقام توزيعها، وانخفاض عائداتها من الإعلانات. وقد تفاقمت حدة هذه الأزمة منذ بداية السبعينيات، مع الارتفاع الجنونى الذى شهدته أسعار ورق الصحف، ومستلزمات الإنتاج والطباعة، الأمر الذى حدا بكثير من الباحثين إلى التنبيه لحقيقة المخاطر التى تتعرض لها صناعة الصحافة، وضرورة التفكير جديًا في البحث عن سيناريوهات واقعية لإنقاذها من كبوتها وعثراتها. وتشير الدراسات إلى أنه مع مرور الوقت انخفضت أرقام توزيع الصحف إلى النصف تقريبا، بالرغم من استمرار معدل النمو السكانى نفسه، وتزايد معدلات التعليم، حيث أخذت أرقام توزيع الصحف تنخفض بشكل مضطرد، بالرغم من أن هناك كثيرا من الصحف اليومية مازالت أرقام توزيعها تتجاوز المليون نسخة يوميًا أو يزيد، مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" الأمريكيتين و"أساهي شيمبون" اليابانية، وغيرها. وتوجد ثمة أسباب عديدة أيضًا أدت إلى تراجع الصحف الورقية منها ما يتعلق بالمضمون التحريرى المقدم فالملاحظ ضعف وسطحية هذا المضمون، والذى أصاب الصحف الورقية بكافة توجهاتها وملكياتها، إضافة إلى تكرار مضامين الصحف الورقية دون محاولة القائمين على أمرها بذل مزيدٍ من الجهد للارتقاء بهذه المضامين، وذلك بالبحث عن الانفرادات الصحفية، أو اللجوء إلى القصة الخبرية المصنوعة والتى كانت أهم ما يميز الصحف الورقية في فترات ازدهارها. إن عدم لجوء القائمين على الصحافة الورقية إلى محاولة تطوير المحتوى الصحفى للصحف الورقية في ظل المنافسة الشرسة بينها وبين وسائل الاتصال الأخرى، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، أدى بالطبع إلى التراجع الواضح والسريع في المستوى العام للصحف الورقية، والتدهور المضطرد في أرقام توزيعها، فهناك قوالب وفنون صحفية مستحدثة كصحافة المواطن والصحافة الاستقصائية وكذلك صحافة البيانات، بالإضافة إلى صحافة الرأى والتحليل لو استُغلت بقدر كبير تصبح كافية كى تعيد كثيرًا من القراء إلى حظيرة الصحف الورقية، وتنقذها من عثراتها وترفع من أرقام توزيعها. وقد لوحظ في الآونة الأخيرة تدهور حاد في صناعة الصحافة الورقية من حيث أرقام توزيعها والتى اتسمت بالانخفاض الحاد والتى يُرجعها الخبراء في تناولهم لهذه المشكلة إلى عدد من العوامل أهمها تراجع مستوى الأداء الصحفى في الصحف الورقية، وسطحية التناول وبُعد الصحافة الورقية عن اهتمامات القراء. ومن هنا جاءت الدراسة المهمة التي أعدها تلميذي د.فتحي إبراهيم اسماعيل مدرس الصحافة بقسم الإعلام بكلية الآداب جامعة بنها وعنوانها "اتجاهات النخب الصحفية نحو أسباب تدهور الصحافة الورقية المصرية ومقترحات النهوض بها: دراسة ميدانية على عينة من النخبة الصحفية والأكاديمية"، والتي سعت إلى معرفة ودراسة آراء واتجاهات النخب الصحفية في العوامل والأسباب التى أدت إلى تدهور الصحافة الورقية المصرية ووضع سيناريوهات النهوض بها. وقد أجرى الباحث مقابلات متعمقة مع عينة من القيادات الصحفية بالمؤسسات الصحفية والصحف الورقية كرؤساء التحرير ومديرى التحرير بتلك الصحف، كما قام الباحث بعمل مقابلات متعمقة مع بعض من أعضاء مجلس نقابة الصحفيين على اعتبار أن نقابة الصحفيين ركن مهم وأساسى في متابعة وتقييم وتقويم الأداء المهنى للصحف، وهى أيضا شريك أساسى في عملية تطوير المهنة، وهم أيضًا ممارسون للمهنة في صحفهم ومؤسساتهم، وهم من يتعاملون مع مشكلات الصحف والعلاقة المنظمة بين الصحفى ومؤسسته. كذلك قام الباحث بإجراء مقابلات متعمقة مع عينة من أساتذة الصحافة والإعلام بالجامعات المصرية فهم مَن يقومون بإعداد الكوادر الإعلامية والصحفية في كليات الإعلام وأقسام الإعلام والصحافة في الكليات الأخرى. وقد طُبقت الدراسة على عينة من النخبة الصحفية في الصحف الورقية ونقابة الصحفيين وكليات الإعلام وأقسام الإعلام قوامها 55 مبحوثًا. وفي المقال القادم نقوم باستعراض نتائج هذه الدراسة.
مشاركة :