منذ سنوات عندما كنا أطفالا، كانت القضية الفلسطينية تشغل حيزًا كبيرًا من وجداننا، فقد كنا نتفاعل معها بطريقة أو بأخرى، فعندما تحدث مناوشات بين الأطراف كنا نقف كلنا -كعرب- صفًا واحدًا مع القضية من غير أن نختلف، جميعًا في خندق واحد، لا آراء مختلفة ولا آراء متناقضة. في منتصف الثمانينيات، بدأنا نسمع من بعض الشباب في بعض الدول العربية، نوعًا من التذمر ونوعًا من اللامبالاة في بعض الأحيان عندما يأتي ذكر فلسطين على مسامعنا وأثناء تجمعنا وخاصة عندما كنا في الجامعة، فنسمع البعض يقول «لماذا نربط حياتنا بفلسطين؟»، أو «لسنا معنيين بفلسطين»، إلا أن مثل هؤلاء كانوا يواجهون بردود فعل قوية من بقية الشباب الذين كانت فلسطين في قلوبهم في تلك الفترة. واليوم في الحرب الأخيرة (رمضان 2021) وجدنا أن المعترضين والمتذمرين أصبحت أصواتهم عالية وطبولهم منتفخة، وخاصة في وجود وسائل التواصل الاجتماعي، فمن خلال متابعتنا للأحداث تبين أن هناك فئة غير قليلة تعترض على إبقاء القضية الفلسطينية في موقعها الحالي، فهم ينادون -وربما على استحياء حاليًا- بالتخلي عن القضية الفلسطينية وذلك ببعض الادعاءات التي قد تكون غير حقيقية، وربما بالعديد من الأسباب والادعاءات، فمنهم من يقول «إن قضية فلسطين ليست قضيتي»، ومنهم من يقول «حتى متى نحارب ونقف مع فلسطين؟»، ومثل هذه الأقوال الكثيرة التي ربما تعطي مؤشرًا أحمر على أن الموضوع يحتاج إلى وقفة تأمل وتفكير. وجدنا في هذه الحرب الأخيرة أن الشعوب العربية قد انقسمت إلى عدة فئات تجاه القضية؛ فمنهم من يقف مع (حماس) على اعتبار أنها الفصيل الوحيد الذي يستطيع الدفاع وإعادة فلسطين، وفئة أخرى تخوّن (حماس) على اعتبار علاقتها مع إيران، فإيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة، ومنهم من وقف ساكتًا فلا يعرف من يؤيد ومن يعارض، وفئة رابعة وجدت نفسها تتحدث عن فلسطين بغض النظر عن أي انتماء أو أي فصيل، وفئة أخيرة ظهرت وخاصة هذه المرة وهي الفئة اللامبالية، وحتى بعدما تنادي الناس بمقاطعة بعض المنتجات الإسرائيلية قالوا «ماذا يعني؟ لماذا نقاطع هذه المنتجات؟ ومن أجل من؟»، ومثل هذه الأقوال. عند كل هؤلاء وهؤلاء تحولت القضية الفلسطينية من قضية إسلامية عربية عامة كما كانت منذ البداية إلى قضية (حي الشيخ جراح)، وهذا الحي أو تلك القرية المقدسية تتبع لمحافظة القدس، وتقع في الجانب الشرقي لمدينة القدس، وتقدّر مساحتها بحوالي 808 دونمات، ويقدر عدد سكانها بـ2800 نسمة تقريبًا، وإن زادت الأمور قليلاً فإن البعض يتحدث عن غزة تلك المساحة من الأرض الفلسطينية المحاصرة منذ ما يقارب 15 سنة فقط، من الجوع والظلم. هذا التحول، وهذا التغير لم يحدث في يوم وليلة، وإنما استغرق سنوات طويلة من العمل، وسنوات من زرع فكرة صغيرة في عقل الإنسان العربي وخاصة الأجيال الصغيرة والشباب ومن هؤلاء الفئة الذين لم يعيشوا القضية منذ البداية، فقد زُرعت في عقولهم بذرة الإحباط واليأس، بذرة عدم جدوى المناداة بالقضية الفلسطينية لأنهم تارة يقولون لنا إنها مضيعة وقت، وتارة يقولون إن الجيش الإسرائيلي لا يمكن أن يُغلب، وتارة بحجة التعايش والسلام، وكل ما بين فترة وأخرى تخرج لنا وسائل الإعلام المختلفة ببعض المسميات لترش بعضًا من الماء على البذور الموجودة في الرؤوس حتى تنمو وتكبر، وكلما كبرت الشجرة تصدع المخ وانكسرت الرؤوس وامتدت الشجرة بظلالها وتناثرت بذورها لتقع على بعض الرؤوس الأخرى لتعيد الكرة مرة من جديد، فمن فعل ذلك؟ وكيف بدأت الفكرة؟ ولماذا تستمر؟ ونحن هنا لا نتبنى ولا نتحدث عن نظرية المؤامرة (Conspiracy theory)، وكذلك نرجو أن نكون مخطئين في فكرتنا ووجهة نظرنا، على الرغم من أن نظرية المؤامرة نظرية غربية وليست عربية الأصل، ولكن الذي يحدث اليوم على الساحة العربية بالنسبة للقضية الفلسطينية أمر يدعونا لإعادة التفكير في كل ما يحدث، ونسأل أنفسنا: لماذا يحدث هذا الأمر وبهذه الطريقة؟ القضية الفلسطينية ليست قضية قرية أو مدينة أو بلد، وإنما قضية أوسع من ذلك بكثير، فتلك الأرض مباركة منذ أن وطأتها قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج، فقد قال تعالى في سورة الإسراء – الآية 1 (سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وربما قبل ذلك حينما كانت قبلة المسلمين لسنوات طويلة، فهذه الأرض مباركة بالنسبة لنا كمسلمين، وقد منحها الله سبحانه وتعالى للمسلمين منذ أن كانت قبلتنا ومسرى رسولنا العظيم. وفي عهد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبقيادة الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في نوفمبر 637 ميلادية، قام البطريرك صفرونيوس بتسليم مفاتيح مدينة القدس للفاروق رضي الله عنه، وهذا ما أكد توطيد أسلمة فلسطين كلها بما فيها القدس والشام كله للحكومة الإسلامية، ومنذ ذلك الحين والقدس وفلسطين والشام كلها دول إسلامية، يعيش فيها كل إنسان بحسب دينه وملته من غير اضطهاد أو إجبار لتغيير دينه أو ملته، ولم يشهد التاريخ حتى ولو حالة واحد من حالات الاضطهاد في العصور الإسلامية كلها، فكل تلك الملل كانت تخضع للوثيقة العمرية التي أعطاها لأهل إيليا، فظلت تلك الوثيقة سارية المفعول حتى بعد الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر وعبر القرن الثالث عشر. فالحكومة الإسلامية عرّفت العالم كله بمكانة القدس في الإسلام، كما في المسيحية واليهودية، ومن الجدير بالذكر أنه بعد الفتح الإسلامي للقدس سُمح لليهود بزيارة وممارسة شعائرهم الدينية بحرية في القدس من قبل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بعد ما يقرب من 500 سنة من طردهم من الأراضي المقدسة من قبل الرومان. وللحقيقة والتاريخ فإن المصادر التاريخية تقول إن هرتزل حاول في العديد من المرات أن يجد وطنا قوميا سياسيا يجمع فيه اليهود، ففكر في (موزمبيق)، ثم في (الكونجو)، كما رُشحت له (الأرجنتين) عام 1897 و(قبرص) عام 1901، و(سيناء) في 1902، ثم (أوغندا) مرة أخرى في 1903 وذلك بناء على اقتراح الحكومة البريطانية، ولكن ذهبت كل محاولاته سدى وأصيب بخيبة أمل كبيرة؛ لأن اليهود في العالم -آنذاك- لم ترق لهم فكرة إقامة دولة يهودية سياسية؛ سواء لأسباب آيديولوجية، أو لأنهم كانوا عديمي الرغبة في النزوح عن البلاد التي استقروا فيها؛ بل إن مؤتمر الحاخامات الذي عقد في مدينة فيلادلفيا في أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر أصدر بيانًا يقول: «إن الرسالة الروحية التي يحملها اليهود تتنافى مع إقامة وحدة سياسية يهودية منفصلة»، وإزاء هذا فكر هرتزل في طريقة أخرى يواجه بها هذا الوضع، وهداه تفكيره إلى أن يحول الموضوع إلى قضية دينية يلهب بها عواطف جماهير اليهود، ورأى أن فلسطين هي المكان الوحيد الذي يناسب هذه الدعوة الجديدة، ولليهود بفلسطين علائق تاريخية، ولهم فيها مقدسات دينية، فارتفعت راية الدين على سارية المشروع والتهبت العواطف، وانتصر رأي «هرتزل» وإن كان بعد وفاته، فقد احتضن المؤتمر اليهودي العالمي فكرة الوطن اليهودي في فلسطين عام 1905، أي بعد موته بسنة. وكان العائق الوحيد أمام هذه الفكرة هو السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، فعرضت عليه الكثير من الأموال والهدايا وكل ما يرغب فيه، إلا أنه قال «انصحوا هرتزل ألا يتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع، لأنني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وقاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزقت دولتي من الممكن الحصول على فلسطين من دون مقابل، ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولا في جثتنا». والتاريخ يقول أيضًا إنه في 2 نوفمبر 1917 قدم وزير خارجية بريطانيا آنذاك (آرثر جيمس بلفور) وعدًا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين في وثيقة كتبت على ورقة تحوي 67 كلمة فقط، وكأنه عندما وعد كان يملك فلسطين حينئذ، فهو يعلم علم اليقين أن بريطانيا كانت دولة مستعمرة لفلسطين في حينه، وأن العرب والمسلمين كانوا يفدون هذا القطر بأرواحهم مهما طال الزمن، علمًا بأن نسبة اليهود في فلسطين في ذلك الوقت لم تكن تتجاوز 5% من مجموع السكان، فمن أين جاءهم الحق في إقامة دولة لهم في فلسطين؟ واليوم نختلف كعرب، هل نقف مع القضية الفلسطينية أم نختلف لأن الفصيل الفلاني يحارب هنا والفصيل الآخر يحارب هناك، وأنا لا أحب هؤلاء ولا هؤلاء؟ القضية ليست حبا ولا كراهية، وإنما هي إسلامية عربية في الصميم، فهل يمكن إعادة القضية الفلسطينية إلى المربع الأول حتى نعيد جمع شتاتنا؟ هل وصلت الفكرة يا عرب؟ Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :