مع مرور الزمن هل تتغير الحقيقة؟ بالتأكيد لا، إلا إذا طرح الزمن وثيقة تجعلنا نعيد النظر أو نراجع ترتيب الوقائع، فنكتشف شيئًا آخر، ولكن لا توجد أبدًا حقيقة حسب الطلب وتبعًا للمزاج النفسى أو بناء على طلب الجماهير. فى حياة عملاق الأدب العربى عباس محمود العقاد قصتان غراميتان، سجل واحدة فى الرواية الوحيد التى كتبها باسم (سارة) ولم يكن اسم عشيقته الحقيقى، والثانية كتب عنها أشعارًا وأيضًا لم يُشر صراحة إلى اسمها، ولكنها تركت على خريطة مشاعره الكثير من الجراح ظل يعانى منها حتى أيامه الأخيرة!!. ليس سرًا أن المرأة الثانية التى أحبها هى الفنانة الكبيرة التى كانوا يلقبونها فى الأربعينيات بسمراء النيل مديحة يسرى، والتى احتفلنا بذكرى رحيلها قبل يومين. كان الفنان التشكيلى الكبير الراحل صلاح طاهر أحد شهود العيان على قصة الحب، فهو واحد من تلاميذ العقاد، أتيح لى أن ألتقى به كثيرًا فى مطلع الثمانينيات فى منزل الموسيقار الكبير مدحت عاصم، وكنت أحرص على أن أستمع إلى الكثير مما يرويه الأستاذان، سواء فى الفكر أو حتى فى أمور الحياة العامة، وكان صلاح طاهر ومنذ الثلاثينيات من القرن الماضى من أكثر المقربين من العقاد، وأصبح التلميذ مع مرور الزمن صديقًا حميمًا، وذكر لى صلاح طاهر أن الحب الحقيقى للعقاد هى نجمة سينمائية سمراء كانت قبل احترافها الفن مسؤولة عن منزل الكاتب الكبير، ووقع فى حبها، وكان لا يريد لها أن تستجيب لنداء الفن، وكتب عنها بعض أشعاره، ولكن غريزتها الفنية كانت أقوى، فغادرت بيت وحياة العقاد، بينما هو لم يستطع أن ينساها وعز عليه النوم ليالى طويلة، ولم ينقذه سوى تلميذه وصديقه الذى رسم له لوحة عبارة عن «تورتة» كبيرة تحوم حولها الحشرات.. وضعها العقاد فوق سريره مباشرة، رمز صلاح إلى هذه النجمة بالتورتة، أما الحشرات فهو المجال الفنى الذى تكاثر حولها، وكأن صلاح طاهر أراد أن يجعلها بقدر ما هى مرغوبة فهى أيضًا ممنوعة ومرفوضة، تحولت أنامل الفنان التشكيلى الكبير إلى طبيب نفسى يفرغ شحنات الغضب بالألوان والظلال. فى الماضى لم تكن مديحة يسرى تنكر فى أحاديثها حب العقاد لها، وتردد الكثير من أشعاره التى كتبها عنها، إحدى تلك القصائد تناولت كوفية ومعطفًا كانت قد نسجتها له على «التريكو».. ولم يكن فقط العقاد هو الذى يكتب الشعر فى مديحة يسرى، فلقد سبق أن قالت لى إن الشاعر الغنائى الكبير الراحل عبدالمنعم السباعى كتب عنها أغنيتين، الأولى «أنا والعذاب وهواك عايشين لبعضينا» لمحمد عبدالوهاب، أما الثانية فهى «جميل وأسمر» لمحمد قنديل، حتى إن السباعى من فرط حبه لها أطلق اسمها على ابنته الوحيدة. ونعود إلى لوحة صلاح طاهر التى كانت هى البلسم الشافى الذى قدمه لأستاذه فأخرج الكاتب الكبير من مأزقه النفسى، وظلت هذه اللوحة معلقة فوق سرير نومه حتى رحيله، وكلما تذكرها وأضناه السهر وعز عليه النوم أطال النظر للوحة حتى يستطيع بعدها أن يخلد فى سبات عميق، أما المعطف والكوفية اللذان صنعتهما أنامل «مديحة يسرى» فلم يعثر لهما بعدها على أثر، ربما فى لحظة غضب أحرقهما.. ربما؟! الفنانة الكبيرة مديحة يسرى فى حواراتها الأخيرة صارت تُنكر حب العقاد، حتى ولو كان فقط من طرف واحد، الحب ليس ذنبًا حتى تتبرأ منه، والحقيقة تظل مع الأيام حقيقة، ولكن مع الأسف المجتمع صارت لديه تحفظات، تجعل البعض منا إرضاء للرأى العام يتناقض حتى مع تاريخه الموثق!!. المقال : نقلاً عن (المصري اليوم).
مشاركة :