تصاعدت الدعوات الدولية المطالبة بمحاسبة إسرائيل على الجرائم التي دأبت على ارتكابها فى الأراضي الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة، ولا سيما خلال التصعيد الأخير الذي شهده الشهر المنصرم، والذي أقدمت خلاله قوات الاحتلال على قصف أحياء سكنية واستهداف المدنيين العزل، بالإضافة إلى استمرار محاولاتها لاقتحام المسجد الأقصى المبارك وتغيير هويته، ومواصلة مساعي إجلاء سكان حيي «الشيخ جراح» و«سلوان» من منازلهم، الأمر الذي اعتبرته العديد من المنظمات الدولية محاولة تطهير عرقي، مما دفع المحكمة الدولية فى «لاهاي» للإشارة علنا إلى أن ما اقترفته قوات الاحتلال يشكل جرائم حرب، مع التلميح إلى إمكانية فتح تحقيق دولي فى تلك الأحداث التي تمثل انتهاكات صريحة لحقوق الإنسان. ومع التسليم بانحياز عدد من الدول الكبرى إلى جانب إسرائيل، ومنعها إصدار إدانات دولية لممارساتها الإجرامية ضد الفلسطينيين، على غرار ما شهدناه عندما عرقلت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن - ثلاث مرات - مشاريع قرارات حملت إدانة من مجلس الأمن الدولي خلال المواجهات الأخيرة، إلا أن الكثير من المعطيات تدل بوضوح على أن صبر المجتمع الدولي بدأ ينفد أمام التجاوزات الإسرائيلية التي تصاعدت بشكل كبير خلال السنوات الماضية، وأن العالم يضغط باتجاه إيجاد تهدئة مستمرة، وحل شامل وعادل للأزمة التي تؤرق الجميع، ويرجع إليها استمرار حالة عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط والعالم أجمع. أبرز تلك المعطيات تجلت فى اللهجة الإسلامية الغاضبة العارمة التي ظهرت جلية فى بيان منظمة التعاون الإسلامي، وكذلك مواقف الدول العربية المنددة بتلك الجرائم الإسرائيلية، وعلى رأسها الموقف السعودي الذي بقي يلعب الدور العربي الرئيسي فى مساندة الشعب الفلسطيني، والوقوف إلى جانب قيادته، نصرة للقضية الفلسطينية. وبعدها اللهجة التي استخدمها الرئيس الأمريكي خلال اتصاله بـ«نيتنياهو»، حيث أشارت الصحف الأمريكية إلى أنه تحدث بأسلوب «فظ»، وطلب إنهاء المواجهات على الفور، وذلك بعد أن تمادى جنود الاحتلال فى اعتداءاتهم بحق الفلسطينيين، مما دفع الدول العربية إلى التهديد برفع الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما كان يعني وضع الولايات المتحدة فى موقف محرج، حيث اصطف بقية زعماء العالم وراء المطالب المنادية بوقف العدوان. كما وصفت الأمم المتحدة أن قرار إجلاء الفلسطينيين من القدس بأنه «انتهاك للقانون الدولي»، مؤكدة أن القدس الشرقية لا تزال جزءا من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن جميع الإجراءات الإسرائيلية التشريعية والإدارية ملغاة وباطلة وفقا للقانون الدولي. وأبدى الاتحاد الأوروبي معارضته الشديدة للعدوان، حيث قال المتحدث الرسمي باسم المفوضية الأوروبية للشؤون الخارجية والأمن، بيتر ستانو: «محاولات إسرائيل لإخلاء العائلات الفلسطينية فى حي «الشيخ جراح» بالقدس ومناطق أخرى من القدس الشرقية «أعمال غير قانونية بموجب القانون الإنساني الدولي، وتؤدي لتأجيج التوترات على الأرض». ودعا صراحة إلى تجنب أعمال التحريض حول الحرم القدسي الشريف، واحترام الوضع الراهن ومحاسبة الجناة من جميع الأطراف. كذلك كان التصريح اللافت للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي أشار فيه صراحة إلى أن ممارسات تل أبيب بحق الفلسطينيين، وتقييد تحركاتهم، والتشدد فى المعابر، والجدار العازل قد يشكل أدلة على ممارسة فصل عنصري كامل، وهو التصريح الذي اعترض عليه نيتانياهو بشدة. وعلى الطريق نفسه، أعلنت عدة دول كبرى دائمة العضوية فى مجلس الأمن مثل روسيا والصين تذمرها من تصرفات حكومة الاحتلال، والدعم الأمريكي المطلق لها. المواقف الداعمة للشعب الفلسطيني لم تقف عند ذلك الحد، حيث كانت المفاجأة فى توقيع 500 من أعضاء الحزب الديمقراطي، ومن الذين عملوا بحملة «بايدن» الانتخابية فى 22 ولاية أمريكية على رسالة تدعو الرئيس إلى محاسبة إسرائيل بعد عدوانها الأخير على قطاع غزة، وبذل المزيد من الجهود من أجل حماية حقوق الفلسطينيين، ومحاسبة تل أبيب على عدد القتلى غير المتكافئ الذي تسببت فيه قواتها. هذا التململ الدولي ظهر بصورة أكبر فى نتيجة التصويت الذي أجري خلال الأيام الماضية فى مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، حول قرار تشكيل لجنة دولية مُستقلة للتحقيق فى الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني بحق أبناء الشعب الفلسطيني، خاصة ما حدث فى حيي «الشيخ جراح» و«سلوان»، والعدوان على غزة الذي تم توصيفه على أنه «جرائم حرب» و«جرائم ضد الإنسانية»، حيث وافقت 24 دولة على تشكيل اللجنة، بينما عارضته 9 دول فقط، وهي نتيجة تحمل إشارات واضحة على أن حكومة الاحتلال خسرت التعاطف العالمي الذي تسعى له، بعد أن انكشف أمرها، واتضح للجميع حجم الجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني الأعزل. الآن ينبغي استثمار هذه المواقف الدولية الواضحة، لمحاسبة إسرائيل، وإرغامها على وقف اعتداءاتها على الفلسطينيين، وتسريع جهود الحل الشامل والعادل، ولا سبيل لتحقيق تلك الأهداف إلا عبر تسريع وتكثيف الجهود، وتشكيل موقف عربي وإسلامي، لرفع قضايا ضد سلطات الاحتلال أمام المحاكم الدولية المختصة. قد يرى البعض أن تلك الدعاوى مصيرها إلى الفشل، وهذه - من وجهة نظري - دعوة لليأس والاستسلام للأمر الواقع، وهو ما أوصلنا إلى هذه الدرجة، فتلك الدعاوى تلوح، فى الوقت الراهن، فرصة سانحة لقبولها والنظر فيها. وقطعا سوف تتحقق من تلك الخطوة نتائج إيجابية كثيرة، بغض النظر عن قرار المحاكمة، فحتى إذا مارست الولايات المتحدة وبعض الدول ضغوطا لعدم إدانة إسرائيل، فمما لا شك فيه أن مجرد قبول هذه الدعاوى سوف يثير الرعب فى نفوس قادة الاحتلال وجنوده، ويدفعهم للتفكير كثيرا قبل الإقدام على تكرار العدوان. آن الأوان كي تدرك إسرائيل أنها ليست دولة فوق القانون، وأن العدالة يمكن أن تلاحقها، وأن الموقف الدولي الذي كان يدعمها بقوة، وفى كل الظروف، قد تغير، وأنها تحولت إلى خانة «المعتدي»، وهي التي كانت تتظاهر دوما بأنها «الضحية»، بعد أن انكشف وجهها الحقيقي وتساقطت عنها أوراق التوت التي توارت خلفها كثيرا، لإخفاء سوءاتها.
مشاركة :