العودة بخفي حنين الحبيب الأسود العودة بخفّي حنين في كل مرة ليس لأن الإسكافي ذكي، ولكن لأن الأعرابي أضاع القافلة وبقي يلهث وراء فردة الحذاء. الطمع والغباء عندما يجتمعان دخلنا مرحلة العودة بخفّي حنين، والحقيقة أن أصعب الأوضاع هي تلك التي تدفع بالمرء إلى البحث عن حلول لمشاكل عويصة، وعن منافذ من النفق الذي تردّى فيه، فيبدأ في طرق الأبواب، وسؤال الأصحاب قبل الالتجاء إلى الأغراب، ليعود في كل مرة دون جواب. يقال إن حنين كان إسكافيا من أهل العراق، له صيت ذائع وشهرة تطبق الآفاق، حيث عرف بإتقانه صناعة الأحذية، وبات مقصد أهل البلاد وزائريها من البلدان الأخرى، ونادرا ما يصل شخص إلى بغداد، سواء لسياحة أو تجارة، دون أن يسأل عنه، والذهاب إلى محله للاطلاع على بضاعته، والاستفادة من صناعته. وفي يوم من الأيام، وصل أعرابي إلى محل حنين، وطلب منه أن يريه ما لديه من أحذية، ففعل، وبدأ الأعرابي في تقليبها وتأملها، مبديا إعجابه الشديد بما رأى، قبل أن يختار زوجي حذاء، ويقرر اقتناءهما، ليعود بهما إلى أهله فخورا بالتسوق من محل حنين. سأل الأعرابي عن سعر الحذاء، ثم بدأ في مساومات لا تنتهي، فيما كان الزوار يدخلون المحل ويخرجون دون أن ينتبه إليهم حنين أو يجيبهم عن طلباتهم. وبعد أخذ ورد، وبعد الاتفاق على سعر يرضي الطرفين، فاجأ الأعرابي حنين بتخليه عن فكرة الشراء، فاستشاط الإسكافي غضبا، وندم على إضاعة زبائنه الذين تجاهلهم، وتركيزه كل اهتمامه على الأعرابي الذي أفسد عليه تجارة يوم. بعد فترة من الزمن قرر حنين أن ينتقم من الأعرابي، وكان يعرف طريق عودته وهو يقود قافلته إلى بلده، فسبقه إليها وألقى أمامه فردة من الحذاء، وعندما رآها الأعرابي قال في نفسه: هي ذاتها التي رأيتها، أو قد تكون شبيهة لها، ولكن ما فائدتها وهي وحيدة؟ فرماها وواصل سيره، وبعد مسافة طويلة ألقى حنين الفردة الثانية من الحذاء، فلما رآها الأعرابي قال: وهذه هي الفردة الثانية، وسأكون غبيا إن لم أعد إلى الأولى. فترك قافلته وعاد ليبحث عن الفردة الأولى، فيما استغل حنين الفرصة، واستولى على القافلة، وذهب بالجمل وما حمل. وعندما عاد الأعرابي إلى أهله، وقد خسر تجارته، وأضاع ماله سألوه: بماذا عدت من رحلتك؟ فأجابهم: عدت بخفي حنين. ليذهب ذلك الجواب مثلا بين الناس يدل على الطمع والغباء عندما يجتمعان في شخص عادي، فما بالك إذا كان سياسيا. قيل إن ربيعة الرقي قدم مصر فأتى يزيد السلمي فلم يعطه شيئًا ثم عطف على يزيد بن حاتم فشُغل عنه لأمرٍ ضروريٍّ فخرج وهو يقول: “أراني -ولا كُفران لله- راجعًا… بخفي حنينٍ من نوال ابن حاتمِ” وأنشد أبو الفتح البستي “أكُتابَ بُسْتٍ كَمْ تناحُرُكمْ / على وزارة بُسْتٍ وَهْيَ سُخْنَةُ عَيْنِ / فخُفُّ حُنَيْنٍ فوقَ ما تَطلبونَهُ فلِم بينَكمْ في ذاكَ حَربُ حُنَيْنِ”، وقال أبو عبدالله النخعي الوراق: “وما زلت أقطع عرض البلاد / من المشرقين إلى المغربين / وأدَّرع الخوف تحت الدجى / وأستصحب الجدي والفرقدين / وأطوي وأنشر ثوب الهموم / إلى أن رجعت بخفي حنين”. ولعل من مصائب الدهر أن يرى المرء كبار مسؤولي بلاده يعودون في كل مرة بخفي حنين، بعد أن أضاعوا بوصلة الداخل، واتجهوا لتعويض الفشل الذريع في مختلف المجالات بالبحث عن حلول خارجية يعتقدون أنها متاحة، فيكتشفون أنها صعبة المنال، ولو انتبهوا إلى ثروات أوطانهم وقدرات شعوبهم لكان وضعهم أفضل بكثير مما وصلوا إليه من ذلة وهوان. العودة بخفّي حنين في كل مرة ليس لأن الإسكافي ذكي، ولكن لأن الأعرابي أضاع القافلة وبقي يلهث وراء فردة الحذاء. كاتب تونسي
مشاركة :