كثيرًا ما أكتب رأيًا أو أستنتج واقعة، ثم أكتشف أن الأرشيف يقدم لى إجابة أخرى تضرب فى مقتل ما انتهيت إليه، فنان أو مثقف أو إعلامى أو سياسى كبير يقدم رواية أخرى، وطالما أن هذا هو رأى أحد الكبار فلا مجال سوى للإذعان، هكذا تعتقد الأغلبية جازمة أن الكبار لا يكذبون. قبل يومين، قدمت إذاعة الأغانى الرسمية احتفالًا بالذكرى الأربعين لرحيل شاعر الشباب أحمد رامى، إنه الضلع الأول الراسخ فى كتابة الأغنية، أما الثانى فإنه بيرم التونسى، ورغم التباين الشديد بين القمتين، إلا أنهما تألقا فى زمن واحد، بل إن جزءًا كبيرًا من إبداعهما تألق على حنجرة واحدة، أم كلثوم، رامى كان هو الأسبق ثم لحق به منذ منتصف الثلاثينيات بيرم. ظل الاثنان يشكلان البنية التحتية الشعرية لأم كلثوم، رامى اقتصر النسبة الأكبر من إبداعه على أم كلثوم، بيرم كان أكثر حضورًا فى أغانى الآخرين، رامى منبعه أم كلثوم والمصب أم كلثوم، بيرم منابعه متعددة، ولهذا اتسعت دائرته، لتشمل أغلب مطربى ومطربات زمانه. العلاقة كانت شائكة بين بيرم ورامى، انسَ الصورة الذهنية الملائكية التى رسخها مسلسل (أم كلثوم)، عندما أغفل الضربات المتبادلة تحت الحزام التى وجهها كل منهما للآخر، كان بيرم أكثر مباشرة فى توجيه طعناته، وهو ما يتفق مع شخصيته الحادة، بيرم كتب أساسًا هجائية (يا أهل المعنى/ دماغنا وجعنا) للسخرية من أغنيات رامى، بينما كان رامى يدفع بعض الشعراء الشباب فى تلك السنوات- مطلع الخمسينيات- للسخرية من شعر بيرم، وبينهم الموهوب فتحى قورة. رامى هو صاحب الرصيد الأكبر على خريطة أم كلثوم 137 أغنية، بدأت بقصيدة (الصب تفضحه عيونه) تلحين الشيخ أبوالعلا محمد 1924، ثم انتهت إلى (يا مسهرانى) تلحين الشيخ سيد مكاوى 1972، وبين الشيخين ستجد أن القسط الأكبر من تلحين رياض السنباطى ومحمد القصبجى، بينما كتب لها بيرم نحو 30 أغنية، أغلبها تلحين الشيخ زكريا أحمد. عندما سألوا رامى لماذا غنت أم كلثوم لآخرين؟ أجابهم حتى تُثبت أن نجاحها غير مرتبط فقط بشعر رامى. هل من الممكن أن نصدق هذا الدافع الشخصى، قد يكون به بصيص من الحقيقة، ولكنه لا يعبر بدقة عن كل الحقيقة، رامى هو الأقرب وهو أيضًا المرجع الشعرى الذى تلجأ إليه (الست) ولكنه ليس الوحيد، ولم يكن رامى راضيًا عن كل ما تغنّت به أم كلثوم من أشعار، ولكنه لم يُفصح على الملأ، ربما فى مكالمة تليفونية بينهما يعلن رأيه، على عكس رياض السنباطى الذى كان يسخر بين الحين والآخر من أغانيها للملحنين الآخرين. المؤكد أن أم كلثوم أرادت أن تخرج بعيدًا عن مفردات رامى، بدليل تعاونها مع الشعراء مأمون الشناوى ومرسى جميل عزيز وعبدالوهاب محمد وصلاح جاهين وأحمد شفيق كامل وعبدالفتاح مصطفى، وغيرهم. أم كلثوم، لديها (ترمومتر) تنتقى من خلاله كلماتها، اعترضت مرة على الشاعر أحمد ملوخية عندما عرض عليها إحدى أغنياته، وقالت له: (يرضيك أم كلثوم تغنى لشاعر اسمه ملوخية)، ولم تكن تلك هى الحقيقة، ولكنها أرادت فقط أن تخفف بنكتة وقع الرفض، ولو عرض عليها مؤلف السح الدح أمبوه (الريس بيرة) كلمات أعجبتها، فسوف تغنيها، سواء أكان اسمه الريس (بيرة) أو الريس (كونياك)!!. [email protected] المقال: نقلاً عن (المصري اليوم).
مشاركة :