الفلسطينيون في كفاحهم وعنادهم من أسطورة إلى أخرى ثمة مبالغة كبيرة في اعتبار أن الفلسطينيين كانوا قبل الانتفاضتين يوجعون إسرائيل أو يؤثرون عليها، بل إن ردات فعل إسرائيل على الكفاح الفلسطيني، لاسيما في لبنان، كانت موجعة ومدمرة للفلسطينيين وللبنانيين. هل غيّر الكفاح المسلح موازين القوى مع إسرائيل؟ اعتاد الفلسطينيون في مختلف مراحل كفاحهم، الطويل والمرير والمكلف، توسل الروح العاطفية والحماسية للتعويض عن الظلم المحيق بهم، وعن النقص المزمن في موازين القوى وفي المعطيات العربية والدولية المواتية لإسرائيل، الأمر الذي جعل حركتهم الوطنية تخلط المفاهيم، أو تبالغ بقدراتها، أو تحل الرغبات محل الإمكانيات، بحيث بدا الكفاح الفلسطيني، المعجون بالتضحيات والبطولات، مشوبا بالعناد وبالروح القدرية، أكثر مما هو نابع من استراتيجية سياسية أو عسكرية؛ ومازال الوضع على هذا النحو رغم تجربة غنية ومعقدة بات عمرها 56 عاما. مناسبة هذا الكلام الحديث عن إن “قرار الحرب والسلام”، بات في يد هذا الفصيل أو ذاك، كأن المقاومة (بكل أشكالها) باتت بمثابة حرب بين جيشين، أو كأن الصراع يمكن أن يحسم بطريقة الضربة القاضية، يتضمن ذلك الحديث عن توازن الرعب، والردع المتبادل، مع تأكيد أن ثمة شيئا من ذلك حصل في مراحل سابقة، أيضا، لكن من دون الوقوع في فخ المبالغة، أو تصوير الأمر كمسلمة، كأن ثمة مساواة بين غير المتساوين. المشكلة في هكذا أحاديث تتأتّى من بقاء البعض عند إدراكات متسرعة ورغبوية، شكلية، أو آنية، إذ ولا مرة امتلك الفلسطينيون قرار الحرب أو السلام مع إسرائيل، بل كانوا مجرد بيدق في هذين الخيارين، مع علمنا وأن حرب تشرين (أكتوبر 1973)، كانت آخر الحروب العربية الرسمية، وأن اتفاقية كامب ديفيد (1977) التي عقدتها مصر، فتحت باب التعايش العربي مع إسرائيل ما أوصل إلى مؤتمر مدريد للسلام (1991)، ثم إلى اتفاقية سلام ثانية لإسرائيل مع الأردن، بالتزامن مع اتفاق أوسلو الفلسطيني ـ الإسرائيلي (1993). ويستنتج من ذلك أن قرار الحرب كان في معظم الحالات في يد إسرائيل، وأن قرار السلام أو التعايش كان في يد الأنظمة العربية، وأن الفلسطينيين لم يكن لهم رأي في الحالين، حتى في كل الحروب التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين منذ الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004) وصولا إلى الحرب الرابعة على غزة (2021)، رغم تميز تلك الأخيرة بردها على هجمات إسرائيل الوحشية والمدمرة. وفي نظرة موضوعية أيضا يمكن ملاحظة أن الكفاح المسلح الفلسطيني المشروع لم يغير في موازين القوى العسكرية مع إسرائيل، أي لم يؤثر عليها إلى الدرجة التي تجبرها على تقديم تنازلات. وحتى في الإحصائيات فإن العمليات الفدائية الفلسطينية بين 1965 و2000 لم تكبد إسرائيل خسارة بشرية بقدر الخسارة التي تكبّدتها إبان الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، التي نجم عنها مصرع 1060 جنديا ومدنيا إسرائيليا، أي أن إسرائيل خسرت في أربعة أعوام أكثر مما خسرته في ثلاثة عقود ونصف؛ وهي الفترة التي تكبدت فيها تل أبيب خسائر بشرية أكثر من أي فترة أخرى في تاريخها، في مواجهاتها مع المقاومة (حتى مقاومة حزب الله في لبنان نجم عنها مصرع 840 إسرائيليا لكن في 18 عاما (1982 ـ 2000). ثمة مبالغة كبيرة في اعتبار أن الفلسطينيين كانوا قبل الانتفاضتين يوجعون إسرائيل أو يؤثرون عليها، بل إن ردات فعل إسرائيل على الكفاح الفلسطيني، لاسيما في لبنان، كانت موجعة ومدمرة للفلسطينيين وللبنانيين. بديهي أن الكفاح المسلح استنهض الفلسطينيين، وعزّز هويتهم الوطنية، ووضع قضيتهم في الأجندة العربية والدولية، إلا أن ذلك كله حصل في العقد الأول لانطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية، وهذا ما يجب التمعن فيه جيدا، أما بعد ذلك، فقد عاشت تلك الحركة على الإنجازات المتحققة في العقد المذكور (1965 ـ 1975)، بل إنها بدأت تأكل من هذه الإنجازات وتصرف من تداعياتها، وضمن ذلك استعداد الفلسطينيين للتضحية، كما باتت تعيش على هامش تناقضات وتوظيفات النظام العربي للقضية الفلسطينية، وعلى سعيها للتحول إلى كيان سياسي / سلطة، وهو ما مارسته في لبنان، ثم في الضفة والقطاع، على نحو رسمي، بعد انحسار طابعها كحركة تحرر وطني. معلوم أن الحركة الوطنية الفلسطينية تعاطت بشكل تجريبي وعفوي ورمزي مع الكفاح المسلح، فهي أرادته بداية كوسيلة تعبئة وتأطير وتحريك، أو “توريط واع” للأنظمة (حسب “فتح”)، ثم اعتبرته الشكل الوحيد، بل والحتمي، للصراع ضد إسرائيل، لكنها استدركت ذلك في ما بعد فاعتبرته الشكل الرئيسي للصراع، ثم أحد أشكال الصراع. أيضا شمل ذلك التخبط في طرح المفهوم فمرة كان يجري الحديث عن الحرب الفدائية أو حرب الغوار، وأخرى يتم الحديث عن الكفاح المسلح الفلسطيني، ثم يذهب الأمر للحديث عن حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، علما وأن لكل شكل ظروفه ومعطياته وأدواته وبناه وتداعياته المختلفة عن الأخرى؛ ما يعني أن العمل المسلح الفلسطيني لم يشتغل وفق استراتيجية معينة أو مدروسة، وأنه مازال يفتقد هويته. بيد أن حديث البعض وكأن الفلسطينيين باتوا يمتلكون قرار الحرب والسلام، هذه الأيام، تجاوز كل المفاهيم السابقة، ما يؤكد بأن القوى السائدة في الحركة الوطنية الفلسطينية لا تكتفي بعدم مراجعتها لتجربتها بطريقة نقدية لاستنباط الدروس منها، وإنما هي مصرة على الاستمرار في نفس الطريق، أي خلط المفاهيم والمبالغة في الشعارات والنفخ في الروح العاطفية، وعدم إدراك الفجوة بين الرغبات والإمكانيات في إصرار على صيحات: “سنزلزل الأرض تحت أقدامهم”، و”بالروح بالدم”، و”عالقدس رايحين شهداء بالملايين”، فيما إسرائيل تتفرج، وتترسّخ وتقوى. على ذلك، فإن طرح فكرة عدم النقاش في شأن سلاح المقاومة، يغطي على أسئلة أساسية، بخصوص حركة حماس وما يمكن أن تفعله بقطاع غزة، حيث تسيطر عليه كسلطة. ومثلا: هل تظن أنه يمكن تحويل القطاع إلى قاعدة لتحرير فلسطين؟ أو لتحرير الضفة؟ أو لمقاومة إسرائيل واستنزافها من غزة؟ أو هل يمكن بناء نموذج لدولة فيه تستطيع أن تعزز فكرة الكيان الفلسطيني وتطوير أحوال الفلسطينيين فيه؟ ثم هل تستطيع حماس الموازنة بين كونها سلطة وكونها حركة تحرر؟ أو بين كونها حركة وطنية وكونها ذات ارتباطات إقليمية (تبعا للإهداءات والتحيات إياها)، لاسيما مع ارتهانها للمساعدات الخارجية؟ وباختصار ما المطلوب بخصوص غزة؟ وما الذي يمكن أن تتحمله؟ أو ما هي الاستراتيجية بالضبط؟ ماجد كيالي كاتب سياسي فلسطيني
مشاركة :