قد لا توجد حركة سياسية، أو حركة تحرر وطني، خلطت المفاهيم، أو بالغت في قدراتها، أو طغت عليها الروح العاطفية، مثل الحركة الوطنية الفلسطينية، واللافت أنها لم تراجع وما زالت على هذه الحال حتى بعد تجربة زاد عمرها عن نصف قرن. مناسبة هذا الكلام تصريحات بعض القادة الفلسطينيين عن أن «قرار الحرب والسلام»، بخصوص الصراع مع إسرائيل، هو شأن مشترك، أي لا تحتكره «حماس» ولا «فتح»، وهي تصريحات أتت على خلفية محادثات المصالحة الجارية في القاهرة. المشكلة في هذه العبارة تتأتّى من بقاء بعض القوى الفلسطينية عند ادراكات زائفة ومفوّتة، إذ ما من مرة امتلك فيها الفلسطينيون قرار الحرب أو السلام مع إسرائيل، بل كانوا مجرد بيدق في هذين الخيارين، مع علمنا أن حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، كانت آخر الحروب العربية الرسمية، وأن اتفاقية كامب ديفيد (1978)، التي عقدتها مصر، فتحت باب التعايش العربي مع إسرائيل، ما أوصل إلى مؤتمر مدريد للسلام (1991)، ثم إلى اتفاقية سلام ثانية لإسرائيل مع الأردن (وادي عربة) بعد عام على اتفاق أوسلو الفلسطيني- الإسرائيلي (1993). ويستنتج من ذلك أن قرار الحرب كان في معظم الحالات في يد إسرائيل، وأن قرار السلام أو التعايش كان في يد الأنظمة العربية، وأن الفلسطينيين لم يكن لهم قرار في الحالين. أيضاً، حتى على الصعيد الفلسطيني، فإن الكفاح المسلح لم يغير في موازين القوى العسكرية مع إسرائيل، ولم يؤثر فيها إلى الدرجة التي تجبرها على تقديم تنازلات، وحتى في الإحصائيات فإن العمليات الفدائية الفلسطينية بين 1965- 2000 لم تكبد إسرائيل خسارة بشرية بمقدار الخسارة التي تكبّدتها إبان الانتفاضة الثانية (2000- 2005)، التي نجم عنها مصرع 1060 جندياً ومدنياً إسرائيلياً، أي أن إسرائيل خسرت في خمسة أعوام أكثر مما خسرته في ثلاثة عقود ونصف. هكذا ثمة مبالغة كبيرة في اعتبار أن الفلسطينيين كانوا، قبل الانتفاضتين، يوجعون إسرائيل أو يؤثرون فيها، بل إن ردات فعل إسرائيل على الكفاح الفلسطيني، لا سيما في لبنان، كان موجعاً ومدمراً للفلسطينيين وللبنانيين. صحيح أن الكفاح المسلح استنهض الفلسطينيين، وعزّز هويتهم الوطنية، إلا أن ذلك كله حصل في العقد الأول لانطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية، أما بعد ذلك، فقد عاشت هذه الحركة على الإنجازات المتحققة في العقد سابقاً، بل إنها بدأت تأكل من هذه الإنجازات، وتصرف من تداعياتها، وضمن ذلك استعداد الفلسطينيين للتضحية، كما باتت تعيش على هامش تناقضات وتوظيفات النظام العربي للقضية الفلسطينية، وعلى سعيها للتحول إلى كيان سياسي/ سلطة، وهو ما مارسته في لبنان، ثم في الضفة والقطاع، على نحو رسمي، بعد انحسار طابعها كحركة تحرر وطني. معلوم أن الحركة الوطنية الفلسطينية تعاطت في شكل تجريبي وعفوي ورمزي مع الكفاح المسلح، فهي أرادته بداية وسيلة تعبئة وتأطير وتحريك، أو «توريط واع» للأنظمة (وفق «فتح»)، ثم اعتبرته الشكل الوحيد بل الحتمي للصراع، لكنها استدركت ذلك في ما بعد فاعتبرته الشكل الرئيسي للصراع ثم أحد أشكال الصراع ضد إسرائيل. أيضاً شمل ذلك التخبط في طرح المفهوم فمرة كان يتم الحديث عن الحرب الفدائية أو حرب الغوار، وأخرى يتم الحديث عن الكفاح المسلح الفلسطيني، ثم يذهب الأمر للحديث عن حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد، علماً أن لكل شكل ظروفه ومعطياته وأدواته وبناه وتداعياته المختلفة عن الأخرى، ما يعني أن العمل المسلح الفلسطيني لم يشتغل وفق استراتيجية معينة أو مدروسة، وأنه ما زال يفتقد هويته. بيد أن حديث البعض وكأن الفلسطينيين يمتلكون قرار الحرب والسلام، هذه الأيام، تجاوز كل المفاهيم السابقة، إذ هو مجرد كلام لا أكثر، فلا أظن أن ثمة من يعتقد أن الفلسطينيين يمتلكون جيشاً يستحوذ على أحدث ما في الترسانة الأميركية من أسلحة، وليست إسرائيل، أو أن كل الحروب المدمرة التي شنتها إسرائيل كانت مجرد حروب دفاعية، وأن الفلسطينيين هم في حالة هجوم! عموماً فإن هذا الكلام يؤكد أن القوى السائدة في الحركة الوطنية الفلسطينية لا تكتفي بعدم مراجعتها لتجربتها، بطريقة نقدية، لاستنباط الدروس منها، وإنما هي مصرة على الاستمرار في الطريق ذاتها، أي خلط المفاهيم والمبالغة بالشعارات والنفخ في الروح العاطفية، وعدم إدراك الفجوة بين الرغبات والإمكانيات، وفي استعادة لصيحات: «سنزلزل الأرض تحت أقدامهم»، و «بالروح بالدم»، و «عا القدس رايحين شهداء بالملايين»، فيما إسرائيل تتفرج، وتترسخ وتزدهر وتقوى. أيضاً، لفت الانتباه في التصريحات المتعلقة بالمصالحة الكلام على اعتبار «سلاح المقاومة»، أي «سلاح حماس»، وضمنه سلاح أجهزتها الأمنية، خارج النقاش، إذ لا أحد يستطيع تحديد أي سلاح للمقاومة أو للأمن، حيث السلاح ذاته يمكن استخدامه هنا وهناك، كما يمكن استخدامه في الصراعات الفصائلية، وفي الهيمنة على المجتمع، وهذا حصل في التجربة الفلسطينية في لبنان، وفي الضفة والقطاع، لا سيما في لحظة الانقسام المريرة في غزة (2007). على ذلك، فإن طرح فكرة عدم النقاش في شأن سلاح المقاومة، في محادثات المصالحة، يغطي على حقيقة أن حركة «حماس» لم تفشل فقط في إدارتها للقطاع، بطريقة أحادية وإقصائية، وتعسفية، وإنما هي أخفقت في تعيين ما تريده من القطاع، فهل هو قاعدة لتحرير فلسطين؟ أو لتحرير الضفة؟ أو لمقاومة إسرائيل واستنزافها من غزة؟ أو لبناء نموذج لدولة تستطيع أن تعزز فكرة الكيان الفلسطيني وتطوير أحوال الفلسطينيين فيه؟ والحال فإن إسرائيل بحصارها قطاع غزة (11 سنة) وشنّها ثلاث حروب مدمرة عليه، استطاعت تحييد سلاح «حماس»، بل انها جعلت هذا السلاح وسيلة لتحويل تلك الحركة إلى مجرد سلطة، وفوق ذلك إلى سلطة تحتاج إلى موارد مالية هائلة لحماية هذا السلاح، الذي لم يعد له دور في مقاومة غير موجودة، أو غير مجدية في هذه الظروف والمعطيات، الفلسطينية والإقليمية.
مشاركة :