بدأت التحضيرات الأخيرة للقمة الثنائية المرتقبة بين الرئيس الأميركي والروسي تتسارع، وقد اتضح ذلك في الاجتماعات التحضيرية بين وزيري الخارجية ومستشاري الأمن القومي من البلدَين، وإذا جرت القمة بالشكل المُخطط له، فسيكون أي نوع من الصفقات الكبرى مستبعداً نظراً إلى تاريخ الصدامات الحديثة حول مسائل مثل صراع أوكرانيا والتدخل في الانتخابات والأمن الإلكتروني. لم يكن آخر اجتماع بين جو بايدن وفلاديمير بوتين ناجحاً بأي شكل، فخلال ذلك اللقاء في مارس 2011، دعا بايدن الذي كان حينها نائب الرئيس الأميركي بوتين، رئيس الوزراء الروسي في تلك الفترة، إلى عدم العودة إلى الكرملين، ثم زعم أنه توصّل إلى استنتاجات غير إيجابية حول عقلية نظيره الروسي بعد انتهاء الاجتماع، إذ يبدو أن بوتين بدوره لا يحمل رأياً إيجابياً عن بايدن، مع أنه لم يعبّر عن هذا الموقف بالصراحة نفسها. مرّت أكثر من عشر سنوات على ذلك اللقاء في روسيا، ولا شيء يثبت أن الآراء التي يحملها بايدن وبوتين عن بعضهما تحسنت بدرجة معينة، لكن يُفترض ألا يمنع هذا الواقع المسؤولين البراغماتيين في البيت الأبيض والكرملين من محاولة منع تدهور العلاقات الثنائية على الأقل حين يجتمع الزعيمان في سويسرا في 16 يونيو الجاري، فقد عبّر بايدن ومساعدوه الأساسيون حديثاً عن اهتمامهم بإعادة الاستقرار إلى العلاقات الروسية الأميركية، فأطلقوا مبادرات على شكل تصريحات تصالحية ووعود بالإعفاء من العقوبات. في المقابل، تكلم كبار المسؤولين في فريق بوتين حول الحاجة إلى الاستقرار والتسويات في العلاقات الروسية الأميركية، وعبّر مسؤولون روس آخرون عن أملهم في أن تسهم القمة المرتقبة في استرجاع علاقات ثنائية "ودّية"، لكن إذا كان بايدن وبوتين يعتبران إعادة الاستقرار إلى العلاقات الأميركية الروسية نتيجة نهائية تستحق العناء، فما أفضل الطرق لتحقيق هذه الغاية؟ تتعدد الخيارات المحتملة، منها عكس جزء من الضوابط المفروضة على عدد من الدبلوماسيين واستئناف الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي بين نائب وزير الخارجية الأميركي ونظيره الروسي، إذ يستطيع الزعيمان الاتفاق على هذه المسائل خلال القمة التي ستجمعهما في جنيف، لكن من غير الواقعي أن نتوقع من بايدن وبوتين الاتفاق على شكلٍ من إعادة ضبط العلاقات أو إبرام اتفاقيات حول مسائل أساسية مثل القواعد المطلوبة في المجال السيبراني أو حل الصراعات في أوكرانيا أو سورية. يُفترض ألا يجد الزعيمان صعوبة في مقارنة مواقفهما حول مسائل مثل عودة الولايات المتحدة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة التي ترتبط بشؤون إيران النووية، وانسحاب القوات الأميركية المبكر من أفغانستان، والتغير المناخي، وبرنامج كوريا الشمالية النووي، والصراع في ناغورنو كاراباخ، لكن يصعب توقّع أي تقدّم محتمل في هذه المسائل خلال القمة المقبلة. في ملف أفغانستان، تهتم روسيا والولايات المتحدة بمنع انتكاسة البلد وتحوّله إلى معقل للشبكات الجهادية، مثل "القاعدة" و"داعش" اللذين أبديا اهتمامهما بالإرهاب النووي، وانطلاقاً من هذه المصلحة المشتركة، نفّذ الضباط في وكالات إنفاذ القانون الروسية والأميركية عمليات مشتركة في أفغانستان حين كان بايدن نائب الرئيس الأميركي وبوتين رئيس الوزراء الروسي، لكن يصعب أن نتخيّل أي تحركات مشتركة بين الطرفين اليوم في ذلك البلد، باستثناء تقاسم المعلومات الاستخبارية حول التهديدات المشتركة نظراً إلى المخاوف الأميركية من نشاطات روسيا المزعومة هناك. أنكر المسؤولون الروس بشكلٍ قاطع الادعاءات القائلة إن روسيا دفعت مكافآت مالية مقابل قتل الجنود الأميركيين في أفغانستان، لكن إدارة بايدن أعلنت من جهتها أنها تعجز عن تصديق تلك المزاعم، وفي غضون ذلك، يخضع قادة الأمن القومي والأوساط الاستخبارية في روسيا للعقوبات الغربية حتى الآن، ما يزيد تعقيد أي اجتماعات مباشرة بين هؤلاء الأفراد ونظرائهم الأميركيين. على مستوى خطة العمل الشاملة المشتركة، لا تزال إدارة بايدن مقتنعة، على غرار إدارة أوباما، بأن روسيا أدت دوراً بنّاءً في هذا المجال، بحيث تبقى المفاوضات حول عودة الولايات المتحدة إلى ذلك الاتفاق عملية متعددة الأطراف ولا يمكن معالجة هذا الملف خلال قمة ثنائية بين واشنطن وموسكو من دون مشاركة أطراف التفاوض الأخرى، وفي ملف كوريا الشمالية، تهتم الولايات المتحدة وروسيا بنزع الأسلحة النووية في ذلك البلد، لكن لا يمكن تحقيق هذا الهدف عبر جهودهما الثنائية من دون مشاركة الصين الداعمة لكوريا الشمالية المعزولة. على صعيد آخر، سيصعب التوصل إلى أي اتفاق أميركي روسي حول عدم التدخل في الانتخابات أو وضع قواعد خاصة بالعالم السيبراني نظراً إلى حوادث الاختراق الأخيرة التي تُحمّل واشنطن مسؤوليتها لوكالات الاستخبارات الروسية وجماعات إجرامية تنشط خارج روسيا ونظراً إلى الجو الطاغي على العلاقات الثنائية راهناً، مع أن الجانب الروسي سيحرص على مناقشة هذه المسائل خلال القمة. لطالما دعت الولايات المتحدة بوتين إلى احترام حقوق الإنسان أيضاً، فطالبت بإطلاق سراح المعارِض ألكسي نافالني وإنهاء حملة القمع التي أطلقها الكرملين ضد المعارضة ووضع حدّ للاغتيالات التي تستهدف خصوم الكرملين والمنشقين عبر استعمال أسلحة كيماوية في الخارج، لكن لن يكون بوتين مستعداً لتنفيذ هذه المطالب. كذلك، لا يبدو أي اختراق في الصراع الأوكراني ممكناً خلال القمة، لكن سيناقش الطرفان الخطوات التي يمكن اتخاذها لمنع احتدام ذلك الصراع، وهو ما يخشاه الكثيرون في الفترة الأخيرة، ولمعالجة هذا الملف، يجب أن تتفق الأطراف المعنية في أوكرانيا وروسيا والغرب حول طريقة مراعاة الحد الأدنى من متطلباتها الأمنية عند حل الصراع، فضلاً عن إعادة بناء الهندسة الأمنية المفككة في أوروبا على نطاق أوسع، لكن هذا التوجه يبقى مستبعداً خلال القمة المرتقبة، ويجب ألا يتوقع أحد أيضاً حصول تقدّم كبير في الصراع السوري، إذ سيكون تنحي الرئيس السوري بشار الأسد بعد "إعادة انتخابه" في 26 مايو الماضي بناءً على طلب واشنطن توقعاً عقيماً بقدر الأمنيات بأن تتنازل الولايات المتحدة لتمويل إعادة إعمار سورية إذا بقي هذا الدكتاتور المدعوم من روسيا في السلطة، ومع ذلك، تبرز مؤشرات أخرى على احتمال أن تتفق الولايات المتحدة وروسيا على بعض المقايضات في الملف السوري، منها وقف عمليات شركة نفط أميركية في شمال شرق سورية مقابل استمرار تشغيل بعض قنوات المساعدات الإنسانية الأساسية التي تمتد على طول الحدود السورية التركية وتصل إلى الأراضي التي يسيطر عليها الثوار على الجانب السوري. في ما يخص ملف التغير المناخي، تعهد بايدن وبوتين معاً باتخاذ الخطوات اللازمة لتقليص تداعياته السلبية خلال قمة افتراضية نظمها الرئيس الأميركي في أبريل الماضي، لكن يصعب توقّع أي إنجازات محتملة خلال القمة الثنائية المرتقبة في يونيو، باستثناء تكرار الالتزام بهذه القضية شفهياً. أخيراً، يصعب أن يحرز الطرفان تقدماً بارزاً في المسائل الاقتصادية حتى لو اقترح بوتين مجدداً إنشاء مجلس أعمال روسي أميركي كما فعل في عام 2018، نظراً إلى شبكة العقوبات القائمة وغياب الشراكات التجارية المؤثرة بين الولايات المتحدة وروسيا، ومن المتوقع أيضاً أن يتمسك الطرفان بموقفهما الإيجابي أو السلبي من إنهاء خط أنابيب "نورد ستريم 2"، مع أن الخطوات الأخيرة التي اتخذتها إدارة بايدن تثبت أن الجانب الأميركي أصبح أقل ميلاً إلى إعاقة إنهاء المشروع، فقد أعلنت روسيا في 4 يونيو أنها أنهت تركيب أول خط من أنابيب الغاز، في حين قال بوتين إن إمدادات الغاز قد تبدأ بالوصول خلال عشرة أيام. في ما يخص بعض الأولويات أحادية الجانب تجاه روسيا، مثل اهتمام بايدن بمنع زيادة التقارب بين روسيا والصين (لاحظ الرئيس الصيني شي جين بينغ أن بايدن تعهد بمقابلة بوتين قبله)، واهتمام بوتين (غير المعلن لكن الحقيقي) بتخفيف جزء من العقوبات التي سبق أن فرضها الأميركيون وحلفاؤهم على روسيا، لا يزال أي تقدّم ملموس بعيد المنال. ينطبق الأمر نفسه على دعم موسكو لرئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو الذي لم يعد رئيساً شرعياً للبلد برأي الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. ما العوائق المتوقعة؟ تتوقف جميع التقييمات الآنف ذكرها على استمرارية النزعات الراهنة، وهي مسألة غير مضمونة بأي شكل، ففي المقام الأول، كان يُفترض أن تقرر وزارة الخارجية الأميركية قبل 2 يونيو مدى استعدادها لفرض عقوبات إضافية ضد روسيا أو تقديم التنازلات في هذا الملف، كذلك، من المنتظر أن يسري مفعول الحظر الذي فرضه بايدن في 15 أبريل لمنع المؤسسات المالية الأميركية من الاستحواذ على ديون الدولة الروسية الحديثة قبل موعد القمة مباشرةً. على صعيد آخر، سيحضر بايدن قمة مجموعة الدول الصناعية السبع في المملكة المتحدة ثم قمة حلف الناتو في بروكسل بين 11 و14 يونيو، أي قبل اجتماعه مع بوتين مباشرةً، وقد تؤدي أي مواقف قوية أو وعود كبرى في بيانات هذين الاجتماعَين إلى تضرر اللقاء بين بوتين وبايدن. أخيراً، من المستبعد أن ينحرف مسار القمة بسبب التطورات المذكورة، لكن قد يتأثر هذا الاجتماع فعلاً بتطورات أخرى مثل تحركات أطراف خارجية تحاول افتعال صدام بين القوات الأميركية والروسية في المناطق التي تنشط فيها على مسافة قريبة من بعضها. في مطلق الأحوال، بدأت التحضيرات الأخيرة للقمة الثنائية المرتقبة تتسارع، وقد اتضح ذلك في الاجتماعات التحضيرية بين وزراء الخارجية ومستشاري الأمن القومي من البلدَين، وإذا جرت القمة بالشكل المُخطط له، فسيكون أي نوع من الصفقات الكبرى مستبعداً نظراً إلى تاريخ الصدامات الحديثة حول مسائل مثل صراع أوكرانيا والتدخل في الانتخابات والأمن الإلكتروني. مع ذلك، لا شيء يمنع الزعيمَين من التوصل إلى ما سمّاه سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي في عهد بوتين، نيكولاي باتروشيف، "قرارات مقبولة من الطرفَين". لم يُحدد باتروشيف طبيعة تلك القرارات، لكن قد يكون إنهاء حرب الاستنزاف الدبلوماسية الراهنة جزءاً منها، وبما أن الزعيمَين لن يكتفيا بعقد اجتماع عام بل سيلتقيان أيضاً مع مساعدين أساسيين في أوساط خاصة، يتجدد الأمل بألا يعيدا التأكيد على المواضيع المطروحة فحسب بل يتناقشا جدياً حول المصالح الحيوية وغير القابلة للتفاوض لدى كل طرف منهما وكيفية تجنب الصراعات غير المقصودة في حال المسّ بتلك المصالح.
مشاركة :