نشر مركز «Texas National Security Review»، في اصداره الرابع العدد الثاني ربيع 2021، ورقة بحثية عن «ما بعد حرب الخليج: الصعوبات والفرص الضائعة ونظام ما بعد الحرب الباردة»، كتبها «سامويل هيفونت»، وتحدث فيها عن تفتيت النظام العالمي الجديد. استمرت الحرب العراقية الإيرانية، أو كما يطلَق عليها «حرب الخليج الأولى»، ثماني سنوات دون غالب ولا مغلوب، وانتهت عام 1988 بقبول الطرفين وقف إطلاق النار. خلال تلك الحرب قدمت الدول الخليجية دعمها اللوجستي والاقتصادي، وعلى رأسها الكويت التي فتحت موانيها للعراق، وأقرضته ملياري دولار دون فوائد. وزيادة على ذلك، دفعت الكويت ثمن تعاونها مع العراق بتعرض مراكزها الحدودية في الشمال ومصفاة أم العيش النفطية لغارات جوية إيرانية. وفي المقابل، أسقطت الدفاعات الجوية الكويتية طائرة إيرانية بعد اختراقها المجال الجوي. على الرغم من دعم الكويت للعراق أثناء الحرب، فإن صدام حسين اعتبر هذه الحرب خط دفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي، وبالتالي طالب الكويت بتقليل الديون أو حتى إلغائها، وطلب كذلك تأجير جزيرتي وربة وبوبيان الكويتيتين. وفي عام 1990، اتهم حسين الكويت بالإفراط في تزويد السوق العالمي بنفطها، مما تسبب في انخفاض أسعار النفط عالميًا وتقويض الحصص الإنتاجية لأعضاء منظمة أوبك ، رغم أن العراق نفسه كان ضمن الدول غير الملتزمة بحصص الإنتاج. واتهمها أيضًا بتنفيذ أعمال تنقيب غير مرخصة في الجانب العراقي من حقل الرميلة النفطي، الذي يطلق عليه في الكويت حقل الرتقة. ووصلت حدة التوتر العراقي الكويتي إلى ذروته حينما قرر صدام غزو الكويت في 2 أغسطس عام 1990، باعتبارها المحافظة العراقية التاسعة عشرة. لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، شنت قوات التحالف المكونة من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية حربًا ضد العراق، بعد أن منح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تفويضًا بذلك، وقد أُطلق عليها «حرب الخليج الثانية». وإذا كان جموح صدام وَأَدَه المجتمع الدولي، فقد قرر هو الآخر وأد طموح الولايات المتحدة في بناء نظام عالمي جديد تحلم بقيادته. عمليات التأثير: حرب وجهات النظر الصورة: Getty نتيجة للغزو العراقي للكويت، أصدر مجلس الأمن الدولي قرارات عام 1991 ضيقت الخناق على العراق اقتصاديًا، مما أسقط الشعب العراقي في أزمة إنسانية بسبب نقص الغذاء والدواء. وبرغم إتاحة مجلس الأمن الفرصة لصدام حسين لببيع نفط العراق في إطار برنامج أطلق عليه «النفط مقابل الغذاء»، لتلبية الاحتياجات الأساسية لشعبه مع إبقاء العقوبات المفروضة عليه، فإن هذا العرض لم يلقَ ترحيبًا من الجانب العراقي. في تلك الأثناء، كانت الولايات المتحدة قد أعلنت مولد النظام العالمي الجديد أحادي القطبية بعد انتهاء الحرب الباردة بين الدولتين العظميين، أمريكا والاتحاد السوفييتي الذي تفكك كليًا عام 1992، مُستَبشرة بعالم يسوده السلام، على غرار فترة السلام الروماني حين كانت روما القوة الوحيدة المهيمنة لمئات السنين. بعد حرب تحرير الكويت، أضحى العراق مدمرًا عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فقامت ثورات متتالية داخله تهدد بالإطاحة بصدام حسين، وانشق الكثير من كبار مسؤولي حزب البعث والسفراء العراقيين، ثم تلاهم رئيس المخابرات العسكرية. وانتهجت الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش الأب سياسات أبقت على معاناة العراقيين، مما دفع صدام إلى الانتقام، فكان يتربص بحلم الولايات المتحدة في قيادة العالم، متخذًا من معاناة العراقيين المستمرة أداة سياسية فعالة لتنغيصه. يقول كاتب الورقة البحثية إن صدام كثيرًا ما كان يتباهى بالقوة والعظمة في البداية، ظنًا منه أنها وسيلة ناجحة كي تلتف حوله الدول الأخرى، لدرجة أنه كان يُخفي أعداد الضحايا المدنيين ليَظهر بمظهر القوي الذي لا تؤثر فيه ضربات قوات التحالف، إلى أن قصفت طائرات التحالف بقيادة الولايات المتحدة عمدًا ملجأ العامرية للمدنيين في بغداد عام 1991، في هجوم راح ضحيته أكثر من 400 مدني. تسبب هذا في تعاطف المجتمع الدولي مع الأزمة الإنسانية العراقية، وكان الحديث حينها مفاده أن أمريكا تناقض نفسها من خلال إشعال الحروب من ناحية، وبناء نظام عالمي يعم فيه السلام من ناحية أخرى. استقطب البعثيون العراقيون المقيمون في الخارج، وأي شخص يمتلك قدرة التأثير على الآخرين من المتعاطفين مع العراق، وروجوا لهم إعلاميًا. استجار صدام حسين بالمجتمع الدولي، ونتيجة لذلك أُدينت الولايات المتحدة عالميًا، وانتهى القصف الاستراتيجي على بغداد، وقُلصت العمليات العسكرية لقوات التحالف. هنا أدرك حسين قوة الظهور بمظهر الضحية، وبدأ يروِج له عن طريق الربط بين «النظام العالمي الجديد، ومعاناة أطفال العراق»، و«نشر حقوق الإنسان، وموت وتشوه وتشرد الآلاف من أطفال العراق»، و«نتائج العقوبات الجائرة التي فرضت على العراق، و وفاة أكثر من 14 ألف طفل عراقي خلال الأشهر الأولى بعد الحرب بسبب التلوث وسوء التغذية والنقص الحاد في اللقاحات والأدوية». ضخَّم النظام البعثي استهداف الولايات المتحدة للمستشفيات والمدارس، مستندًا إلى بعض الحقائق كي يُؤخد على محمل الجد من وسائل الإعلام العالمية. بات صدام حسين جاهزًا لوضع استراتيجية بهدف تفتيت التحالف الدولي ضد العراق، فنظم لجنة أطلق عليها «التحرك»، وهي مكونة من كبار مسؤولي وزارة الخارجية وحزب البعث والاستخبارات ووزارتي الصحة والثقافة، للبدء في عمليات التأثير ، مستهدفة أفرادًا يشغلون مقاعد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو يحتلون مناصب جيواستراتيجية في الشرق الأوسط. بنفس الحماسة، استقطب البعثيون العراقيون المقيمون في الخارج جميع الأفراد والمنظمات والاتحادات والجمعيات والأحزاب السياسية، وأي شخص يمتلك قدرة التأثير على الآخرين من المتعاطفين مع العراق، وروجوا لهم إعلاميًا. ومن أجل توفير غطاء لنشاطات الحزب، كان البعثيون ينتقون مؤثرين ينتمون إلى تيارات مختلفة، يتفقون أو يختلفون مع النظام العراقي، إلا أن العامل المشترك بينهم هو الاعتراض على العقوبات المفروضة على العراق. وبنفس النهج، استخدم البعثيون عمليات التأثير داخل الدول المؤيدة للنظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة، بهدف إعادة النظر في دعمهم لها. كانت نتائج عمليات التأثير العراقية واضحة في فرنسا وروسيا ودول الشرق الأوسط، التي ساندت أمريكا خلال وبعد حرب تحرير الكويت. انتقام صدام: كيف تغير موازين القوى العالمية بكونك الضحية؟ الصورة: Getty فرنسا يشير الكاتب إلى أن البعثيين قد أدركوا أن إدارة عمليات التأثير تختلف من دولة إلى أخرى. ففرنسا، رغم تأييدها لحرب تحرير الكويت والعقوبات الاقتصادية على العراق، كانت متعاطفة مع معاناة الشعب العراقي، وانتهجت سياسة «إعادة تشكيل الأمن الإقليمي»، على عكس الولايات المتحدة التي كانت تربط سياساتها تجاه العراق ببناء النظام العالمي الجديد. في عام 1994، قدمت مجموعة من وكلاء حزب البعث العراقي نفسها كمنظمة إنسانية وثقافية ، لتعرض على الرئيس الأمريكي بيل كلينتون تفاصيل الأزمة الإنسانية في العراق، مُطالِبة برفع العقوبات. أجاب كلينتون باقتضاب أن التحقيقات التي يخضع لها صدام حسين تخص جرائم ضد الإنسانية وتشمل «الإبادة الجماعية»، وبالتالي لا يمكن رفع العقوبات، متجاهلًا الأزمة الإنسانية. أشعلت الأزمة الإنسانية الخلاف السياسي بين فرنسا والولايات المتحدة، وعلى إثر ذلك انسحبت فرنسا عام 1996 من قوات التحالف التي تفرض مناطق حظر الطيران فوق العراق. كانت الحكومة الأمريكية على علم بمعاناة الشعب العراقي، ولكنها كانت تعزي ذلك لرفض صدام حسين برنامج الأمم المتحدة «النفط مقابل الغذاء». في المقابل، تأثر الرئيس الفرنسي «فرانسوا ميتران» بشكل عميق تجاه الأزمة الإنسانية العراقية، ولكنه لم يقدم أي وعود بتغيير السياسات الفرنسية. عندما انُتخب «جاك شيراك» رئيسا للجمهورية الفرنسية في 1995، انقلبت سياسة فرنسا تجاه العراق ، فقد أيقن شيراك نجاح استراتيجية صدام حسين في الظهور أمام المجتمع الدولي كضحية، وكان أيضًا ضد صعود الهيمنة الأمريكية في المجتمع الدولي على حساب الدبلوماسية الفرنسية. وعندما وافق صدام حسين على النسخة المعدلة لبرنامج «النفط مقابل الغذاء» عام 1996، والتي سمحت له بالمزيد من بيع النفط، استخدم حزب البعث الأرباح، التي كان من المفترض صرفها لسد الاحتياجات الأساسية للشعب العراقي، لمكافأة مسؤولين وسياسيين فرنسيين موالين. يستكمل الكاتب حديثه بأن عمليات التأثير نجحت في تضخيم معاناة الشعب العراقي في فرنسا. فعندما أعلنت الولايات المتحدة أنها تفضل خلع صدام حسين عن امتثاله لقرارات الأمم المتحدة، لم تدعم فرنسا ذلك الاتجاه، بل على العكس، أرادت أن تُخرِج صدام حسين من العزلة الدولية برفع العقوبات عن العراق. وبالتالي أشعلت الأزمة الإنسانية في العراق الخلاف السياسي بين فرنسا والولايات المتحدة، وعلى إثر ذلك انسحبت فرنسا عام 1996 من قوات التحالف التي تفرض مناطق حظر الطيران فوق العراق. وفي الأعوام التالية، بقيت فرنسا مناهضة لاستراتيجية فرض العقوبات الاقتصادية على العراق التي تنتهجها الولايات المتحدة، لدرجة أن بعض كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية كانوا يسعون جاهدين خلف الأبواب المغلقة لرفعها. روسيا قبل انتهاء الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي حليفًا للعراق، وبعد تفككه وقفت روسيا، الوريث الشرعي للاتحاد السابق، في صف الولايات المتحدة باعتبارها القائد الأوحد للنظام العالمي الجديد. رجح دبلوماسيون عراقيون أن سبب هذا التحول هو وقوعها ضحية لتأثير الولايات المتحدة، وجماعة الضغط اليهودي الصهيوني في روسيا. فقد كانت كل الجهود العراقية لاستعادة علاقاتها مع روسيا خلال عام 1991 وبداية عام 1992 تُقابَل بالرفض. بدأ النظام العراقي تغيير استراتيجيته بدعوة برلمانيين معارضين روس إلى زيارة العراق. ونجحت تلك الاستراتيجية، فقد تحمس عدد منهم للزيارة، وبعد عودتهم إلى بلادهم انتشروا في المؤتمرات ووسائل الإعلام والمظاهرات ، مدافعين عن وجهة نظر النظام العراقي ومطالِبين الحكومة الروسية بتغيير موقفها ورفع العقوبات الاقتصادية. روج البعثيون في الأحزاب المعارضة في روسيا أيضًا لأن بلادهم مهانة من قوى الغرب، بذريعة أن الولايات المتحدة أخفت عن روسيا تنفيذ عمليات عسكرية داخل العراق، متجاهلة أسس النظام العالمي القائم على التعاون. وعلى إثره، تصدعت العلاقات بين البلدين، لدرجة أن موسكو استدعت سفيرها في واشنطن عام 1998 لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. الشرق الأوسط رغم تأكيدها دعمها للسياسات الأمريكية تجاه العراق رفضت دول مثل تركيا والأردن والسعودية طلب الولايات المتحدة استخدام قواعدها الجوية لشن ضربات على الجيش العراقي. كان الشرق الأوسط أرضًا خصبة لعمليات تأثير نظام صدام حسين، خصوصًا بين الإسلاميين. كانت وسيلة صدام المفضلة تقديم منح دراسية لهم في جامعة صدام للدراسات الإسلامية في بغداد، وتجنيدهم، ليعودوا إلى بلادهم وينشروا وجهة النظر البعثية بالعنف في كثير من الأحيان. في عام 1994، تواصل عدي صدام حسين مع أسامة بن لادن ، الذي كان يقيم حينها في السودا، وأقنعه بإذاعة خطب الداعية الإسلامي السلفي السعودي سلمان العودة، وأقنع المخابرات العراقية بتنفيذ عمليات مشتركة ضد القوات الأجنبية في بلاد الحجاز، إلى أن انقطعت العلاقة بينهما بعدما انتقل بن لادن إلى أفغانستان. نأت أنظمة بلدان الشرق الأوسط بنفسها عن الولايات المتحدة. فبرغم تأكيدها دعمها للسياسات الأمريكية تجاه العراق، رفضت دول مثل تركيا والأردن والسعودية عام 1996 طلب الولايات المتحدة استخدام قواعدها الجوية لشن ضربات على الجيش العراقي. الغضب الأمريكي: الطريق إلى احتلال العراق الصورة: US National Archives يؤكد الكاتب أن التقارير التي كانت تصدرها القيادة المركزية للولايات المتحدة ووزارة الدفاع الأمريكية خلال الحرب تتخطى حقيقة المعاناة الإنسانية للعراقيين، فقد توصلت إلى أن الحملة الجوية كانت بالغة الدقة والفعالية لدرجة أنها تسببت في قتل القليل من المدنيين بشكل قانوني، وكانت بالاستراتيجية والقانونية اللازمة لدرجة أنها شلت الجيش العراقي بشكل لا يضر بالبلاد. قسوة الولايات المتحدة في غض الطرف عن الأزمة الإنسانية قادتها إلى زيادة عزلتها عن المجتمع الدولي، لأنها تتناقض مع الواقع العراقي الذي يدركه الجميع. استغل البعثيون إنكار الأمريكيين معاناة العراقيين ونظموا حملة غير مباشرة لإثراء حوار سياسي في الولايات المتحدة، عن طريق تجنيد صحفيين متعاطفين مع الأزمة العراقية يمكنهم التأثير على جمهور واسع، ومنحهم امتيازات مثل زيارة العراق لمقابلة كبار المسؤولين في الدولة، وحتى إجراء مقابلة صحفية مع صدام حسين نفسه. ولتوسيع دائرة التأثير، كان البعثيون يتفقون مع نشطاء أمريكيين متعاطفين لتنظيم مظاهرات ضد السياسات الأمريكية. وتمكنوا أيضًا من اختراق مجتمع الأمريكيين السود، لدرجة أن الملاكم الأمريكي محمد على نظم عشاء لجمع التبرعات من أجل العراق . أعطت هجمات سبتمبر بوش الابن فرصة لحشد دعم شعبه وكبار المسؤولين على حد سواء لتغيير النظام العراقي بالقوة. أدرك البعثيون نجاحهم في التأثير على منظور الأمريكيين عن الأزمة الإنسانية في العراق عندما أذاعت شبكة التليفزيون الأمريكية سي إن إن مقابلة عُقدت في جامعة ولاية أوهايو مع «ساندي بيرغر» نائب مستشار الأمن القومي، و«ويليام كوهين» وزير الدفاع، و«مادلين أولبرايت» وزيرة الخارجية، بشأن سياسة الإدارة الأمريكية تجاه العراق، وكان الحضور مقتنعين أن كلينتون يخط رسالة لصدام بدماء العراقيين. بدأت الولايات المتحدة تفقد السيطرة على صدام حسين، الذي صار أكثر جرأة وشعورًا بالأمان. فعندما شنت هجمات جوية ضد النظام العراقي بسبب إنهائه عمليات الأمم المتحدة في التفتيش عن الأسلحة عام 1998، كان المجتمع الدولي منقسمًا، ولم تستطع أمريكا إجبار العراق على العودة إلى الالتزام بقرارات الأمم المتحدة. وبشكل تدريجي، نجح صدام في تطبيع العلاقات الدولية للعراق اقتصاديًا ودبلوماسيًا. كان جليًا إذًا الغضب الأمريكي من تطبيع العراق لعلاقاته، وأضحت المشكلة هي صدام حسين نفسه، لأن الأمم المتحدة فقدت القدرة على فرض العقوبات على العراق بسبب التصور الذي صدَّره البعثيون للمجتمع الدولي، وهو أن معاناة العراقيين سببها العقوبات الأمريكية. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لم تعد الأزمة العراقية العالقة تؤثر سلبًا على العلاقات الدولية للولايات المتحدة فحسب، بل أفقدت الثقة في النظام العالمي الجديد. ورثت الإدارة الأمريكية الجديدة لجورج بوش الابن نفس نهج سلفه بشأن تغيير نظام صدام حسين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هجمات سبتمبر أعطت بوش الابن فرصة لحشد دعم شعبه وكبار المسؤولين على حد سواء لتغيير النظام العراقي بالقوة. لم تنجح خيارات الولايات المتحدة لحل الأزمة العراقية، ولم تفلح العقوبات الاقتصادية في إجبار النظام العراقي على الإذعان، ولم تكشف عمليات التفتيش أي تطورات، ولم يتزحزح صدام حسين عن منصبه، فكان القرار الأمريكي بغزو العراق. على أسس قانونية هشة، وسياسات غير مدروسة طول فترة ما بعد حرب الخليج الثانية، غزت الولايات المتحدة العراق بهدف تغيير نظام صدام، مسببة انقسامًا في المجتمع الدولي وأزمة دبلوماسية شرخت النظام العالمي الجديد الذي كانت تطمح في قيادته. فقد اتهم الاتحاد الأوروبي أمريكا بتغيير النظام في العراق دون قرار من الأمم المتحدة، ومع ذلك نجدها تجبره على مباركة خطواتها. وكذلك أدركت الولايات المتحدة أن الاتحاد الأوروبي وروسيا تعزز من مصالحها الاقتصادية أحادية الجانب، وغير مهتمة بقيم التعاون التي فشلت الولايات المتحدة في غرسها في النظام العالمي الجديد. واجهت أمريكا خيبة أمل المجتمع الدولي في بناء النظام العالمي الجديد، لأنها تركت الأزمة العراقية في بداية التسعينيات دون حل، برغم وجود فرص لحلها في ذلك الوقت. وكان مبرر إدارة جورج بوش الابن أنها، ببساطة، تنفذ السياسات التي ورثتها من الإدارة السابقة. النظام العالمي الجديد: خيبة أمل متواصلة الصورة: US National Archives ربما لم تنحصر خيبة أمل المجتمع الدولي في بناء الولايات المتحدة للنظام العالمي الجديد فحسب، بل امتدت إلى استمرار حرب تُزهق آلاف الأرواح وتكلف تريليونات الدولارات. من الصعب التنبؤ بما كان سيحدث إذا ما تمكنت أمريكا من احتواء عمليات التأثير التي نشرها البعثيون في أنحاء العالم، أو إذا مضت في حل الأزمة الإنسانية في العراق في بدايتها للحفاظ على بناء النظام العالمي أحادي القطبية. لم تكن الولايات المتحدة حذرة في سياساتها خلال الحرب، ولم تحاول تجنب الخسائر التي خلفتها، ولم تلتزم بالتخفيف من حقيقة المعاناة الإنسانية التي خلقتها، ولم تستطع تسوية الأزمات الدولية دبلوماسيًا بالتعاون مع حلفائها، ولم تقتنص الفرص التي أتيحت لها مرارًا لتغيير مجرى الأمور في العراق. من الصعب التنبؤ كذلك بإمكانية بناء نظام عالمي ما بعد الحرب الباردة، يرتكز إلى قيم الأمن المشترك والليبرالية وحكم القانون. لكن من المؤكد أن حرب الخليج الثانية وما بعدها أسهم بشكل واضح في إفشال محاولات الولايات المتحدة لبناء نظام عالمي، واستبدالها بخيبات سياسية جسيمة.
مشاركة :