عبد النبي العكري أقامت المحكمة الجنائية الدولية ومقرها في لاهاي بهولندا حفل تكريم للمُدعي العام للمحكمة السيدة فاتو بن سودا (من الجابون) والتي تولت منصب نائب المدعي العام للمحكمة لثماني سنوات (2004- 2012)، ثم جرى انتخابها من قبل الحمعية العامة للمحكمة كمدعٍ عام لفترتين بما مجموعه عشر سنوات (2012- 2021)، وكان أن تولت قبلها منصب المستشار الخاص للمحكمة في تحقيقاتها بشأن مجازر رواندا. شارك في الاحتفال أركان المحكمة الجنائية الدولية ومنهم رئيس قضاة المحكمة بروتر هوماسكي ورئيس الجمعية العامة للدول الأطراف في المحكمة سيلفيا فيرناندس ونائب المدعي العام جيمس ستيورات والمدعي العام القادم كريم خان (المملكة المتحدة) ووزير خارجية جامبيا ممادو تانيجرو ووزيرة خارجية هولندا السيدة زيجرد وميلندا ريد ممثلة تحالف المجتمع المدني لدعم المحكمة والشخصيات القضائية والقانونية والسياسية ممن لهم علاقة بالمحكمة. استعرض هؤلاء مسيرة المحكمة منذ بدء التوقيع والتصديق على نظام روما (نظام المحكمة) في 17 يوليو 1998 والذي دخل حيز التنفيذ في 1 يوليو 2002 حيث وقع عليه 137 دولة وصدق عليه 123 دولة. وقد جرى لاحقاً انتخاب قضاة المحكمة والنائب العام والمسجل بعد أن عرضت هولندا أن تكون لاهاي مقر المحكمة. من ناحيتها فقد عرضت القاضية مسيرة حياتها التعليمية كطالبة حقوق والمهنية كقاضية ثم كنائب عام في بلدها جامبيا حيث تدرجت في النيابة العامة حتى أضحت أميناً عاماً للنيابة العامة. وبعدها أضحت وزيرا للعدل والنائب العام خلال 1998-2000. وبعدها التحقت بالمحكمة الجنائية الدولية؛ حيث تسلمت مناصب مهمة حتى انتهاء مهمتها في 2021. عرضت بن سودا بالتفصيل رؤيتها لدور الحقوقي كمحام أو محقق أو مدع عام أو قاضٍ سواء في بلده أو على المستوى الدولي وشعارها العمل بدون خوف أو امتياز. ونوهت إلى أنه طوال حياتها المهنية فإنَّ إنصاف الضحايا الذين لاحول لهم ولا قوة هو هاجسها، ولفتت انتباه المشاركين إلى صرخات النساء والأطفال أثناء زيارتها لمخيم للاجئين في دارفور بالسودان وهم يهتفون: "تحيا المحكمة الجنائية الدولية.. نناشدك بن سودا لا تتركينا"! من خلال الكلمات التي ألقيت في الاحتفال الافتراضي ومشاركة العشرات من المُتابعين فإنَّ المحكمة الجنائية الدولية تواجه تحديات كبيرة وتمر بمنعطف مهم أوضحته بن سودا في كلمتها الشاملة. المحكمة وكما يوضح نظام روما مختصة بالتحقيق والمحاكمة بحق الأفراد الذي يرتكبون جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بموجب اتفاقيات جنيف الأربع وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وعادة يكون هؤلاء ممن أفلتوا من العدالة سواء بحماية أو تواطؤ دولة أو دول أخرى ويمتعون بالحصانة من الملاحقة القضائية. وتلتزم المحكمة بأعلى معايير النزاهة والحيادية والاستقلالية في كل مراحلها: التحريات الأولية والتحقيقات المعمقة والادعاء العام الاحترافي وأخيرا المحاكمة العلنية النزيهة حيث توفر المحكمة للمتهم محامي الدفاع ممن لايتوافر لهم محامون من اختيارهم. ويقوم نظام المحكمة على درجتي تقاضي الكلي والاستئناف ولا تأخذ المحكمة بحكم الإعدام. وعلى امتداد العقدين الماضيين فقد نظرت المحكمة في قضايا شملت متهمين متورطين في جرائم خطيرة في أفريقيا (رواندا وتشاد والكونغو وسيراليون) وفي يوغسلافيا السابقة واغتيال رفيق الحريري في لبنان وتقوم حالياً بالتحقيق في قضايا تتعلق بدارفور في السودان والاستعداد للتحقيق في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل. طرحت خلال النقاش عدة قضايا تتعلق بآلية عمل المحكمة والبطء الشديد في عملها ومحدودية نتائجها والكلفة الكبيرة للقضايا التي تتولاها. ولقد ألقت القاضية فاتو بن سودا بعض الملاحظات المهمة؛ حيث ذكرت أنه إلى جانب الجرائم التي يشملها تفويض المحكمة، فإنها تأمل أن يشمل التفويض جرائم الاتجار بالبشر والرق المعاصر؛ حيث إن ضحاياها يبلغ الملايين من البشر. كما إنه يتوجب أن تعطي المحكمة اهتمامًا أكبر للضحايا من الأطفال والنساء؛ لأنهم الأكثر عرضة للانتهاكات، والأقل قدرة على حماية أنفسهم. لكن ذلك يتطلب تعديلاً في "نظام روما" من قبل الجمعية العامة للمحكمة ورصد اعتمادات مالية لذلك، وهذه تأتي من التبرعات الطوعية للدول الأعضاء وتوظيف المزيد من الكوادر في مختلف الأقسام والاختصاصات. وخلال النقاش عرضت الضغوط والمخاطر التي يتعرض لها المحققون الميدانيون للمحكمة؛ حيث أصيب عدد منهم أثناء التحقيقات التي يجرونها في الكونغو وسيراليون مثلاً، رغم أنهم تحت حمايه قوات الأمم المتحدة والقوات المحلية. من ناحيتها، فقد بينت بن سودا المخاطر والضغوط التي يتعرض لها العاملون معها في الادعاء العام؛ حيث ذكرت أن ما يهمها خلال عملها هو سلامتهم وليس سلامتها الشخصية. وهنا فقد ذكر البعض أنه عندما أثمرت جهود بن سودا في تبني المحكمة لقرار اختصاصها بالجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين في المناطق المحتلة من قبل إسرائيل وكذلك بداية التحقيق في جرائم قوات التحالف بقيادة أمريكا أثناء غزوها للعراق، فقد اتخذت كل من إسرائيل وأمريكا مواقف عدائية وانتقامية بحق بن سودا وطاقمها في الادعاء العام. الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب أصدر أمرا رئاسياً يمنع بموجبه الأفراد والهيئات والشركات الأمريكية من التعامل مع بن سودا وطاقمها ومنعهم من دخول الولايات المتحدة. أما إسرائيل فقد أدانت قرار المحكمة برمتها واتهمتها بمعاداة السامية وأنها لن تتعاون مع المحكمة مطلقاً، علما بأن إسرائيل ليست طرفاً في المحكمة بينما السلطة الفلسطينية عضو فيها. الملاحظ حتى الآن أن مُعظم القضايا التي تحقق فيها المحكمة أو تنظر فيها هي جرائم مُرتكبة في بلدان العالم الثالث وخصوصا أفريقيا، وهو مطلوب، لكن التحدي الكبير أمام المحكمة يتمثل في النظر في الجرائم التي ارتكبتها دول عظمى بحق شعوب بأكملها من أعمال الإبادة الجماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وسوف تشكل قضية الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني وجرائم قوات التحالف ضد الشعب العراقي اختبارًا لذلك.
مشاركة :