كثيرةٌ هي التحديات التي أوجدها تحدي جائحة كورونا، لعل أهمها تعدد المخاطر التي تواجه الدول، الذي لم يعد عسكرياً فحسب بالمفهوم التقليدي، وإنما تعددت جوانبه الصحية والغذائية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الجوانب الأخرى، وربما أدركت العديد من الدول تلك التحديات ومدى خطورتها، إلا أن مملكة البحرين بدأت في التعامل مع تحديات هذه الجائحة على المديين القريب والبعيد، بمعنى آخر العمل بمنظور استراتيجي لمواجهة أبرز ما نتج عن تلك الجائحة من تحديات، ومن أهمها تحقيق الأمن الغذائي الذاتي. صحيح أن ذلك التحدي ليس بالأمر الجديد إلا أن جوانبه تختلف هذه المرة لثلاثة أسباب، أولها: الأبعاد الاقتصادية للأمن الغذائي في ظل ارتفاع تكلفة فاتورة استيراد الغذاء، ليس فقط للبحرين ولكن لدول الخليج العربي كافة، والتي يُتوقع أن تزداد مع زيادة عدد السُكان، خاصةً أن هذه الدول تستورد نحو 80% من احتياجاتها الغذائية من الخارج؛ وثانيها: الأبعاد الجيواستراتيجية لتلك القضية، فدول الخليج العربي تأثرت بتوقف سلاسل التوريد من بعض المناطق إبان تحدي جائحة كورونا، وما أثاره ذلك الأمر من إمكانية تكرار التوقف في أزماتٍ مُماثلةٍ مُستقبلاً، ومن ثم التفكير في كيفية التعاون في النطاق الجيواستراتيجي؛ وثالثها: البُعد المُجتمعي ذاته، فقد لوحظ في العديد من دول العالم تهافت المواطنين على شراء وتخزين السلع الغذائية خلال هذا النوع من الأزمات، فيما تتناول وسائل التواصل الاجتماعي الأزمات بأسلوبٍ يخلقُ حالةً من الضبابية لدى الرأي العام. وتأسيساً على ما سبق فقد خصص مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات» مُنتداه السنوي الرابع لتلك القضية بعنوان «استراتيجيات تحقيق الأمن الغذائي: التحديات والفرص»، كجزءٍ من سعي مملكة البحرين لتحقيق استراتيجيةٍ مُتكاملةٍ للأمن الغذائي، وهي إحدى الوظائف التي تضطلعُ بها مراكز التفكير الاستراتيجي باعتبارها منصةً وطنيةً تنصهر فيها كافة الأفكار والرؤى للتوصل إلى توافقات بشأن القضايا محل النقاش. ومما يلفتُ الانتباه في أعمال مُنتدى «دراسات» الرابع ثلاثة أمور، أولها: النظر إلى أن تلك القضية تمثلُ تحدياً للدول كافة، فإن البحرين تدركُ أنها جزءٌ من إطارٍ إقليميٍ وآخر عالمي، ومن ثم تسعى للاستفادةِ من تجارب بعض الدول في هاتين الدائرتين وخاصة ما يتشابه منها مع ظروف المملكة؛ وثانيها: أن المُنتدى سيكون فُرصةً لتواصل المسؤولين مع الأكاديميين والخُبراء بهدفِ تبادلِ الرؤى والأفكار من خلالِ عصفٍ ذهنيٍ يستهدفُ وضع التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه, موضع التنفيذ، التي أشار إليها جلالته في افتتاح دور الانعقاد الثالث من الفصل التشريعي الخامس لمجلسي النواب والشورى في أكتوبر عام 2020م، ولاشك أن مُناقشة الخطط الاستراتيجية آليةٌ تنتهجها أكثر المراكز تقدماً في العالم، التي تُعد منبراً وطنياً وفكرياً لتناول الجوانب المُختلفة للخططِ الوطنيةِ الطموحة؛ وثالثها: النظر إلى كون تلك القضية ترتبطُ بجوانب عديدةٍ ليس أقلها القُدرات الاقتصادية، فإن بلورة رؤى أكاديمية مُعززةٌ بالحقائق بشأنها يبقى مُتطلباً استراتيجياً، بل إنه سيكون أحد مُرتكزات صانع القرار، من خلالِ المُخرجات النهائيةِ لأعمال المُنتدى وما سوف يليهِ من اهتماماتٍ أخرى سواءً من جانب المركز ذاته أو من جانب مؤسسات أخرى معنية بالقضية. وفي تقديري أن تلك هي المُهمة الأولى لمراكز التفكير الاستراتيجي التي باتت تُمثلُ جزءاً أساسياً من قوة الدول ضمن ما يُطلق عليه بـ«القوة الناعمة»، بمعنى آخر فإنها تُسهمُ بشكلٍ كبيرٍ في التعبير عن القضايا الوطنية بشكلٍ علميٍ مُرتكزةً على الحقائق والمعلومات الموثوقة، وقد كان ذلك مثار الاهتمام الأول لمركز «دراسات» على مدى المُنتديات الثلاثة الماضية، التي تناولت قضايا لا تُهم مملكة البحرين فحسب بل منظومة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ككل. وفي تصوري أن مراكز التفكير الاستراتيجي التي شكل لها تحدي جائحة كورونا مُنعطفاً كبيراً باتت الآن في مرحلةِ التأقلمِ مع تداعيات تلك الجائحة، ومن بينها دراسة بعض نتائجها من منظورٍ استراتيجي، وعلى رأسها تحقيق الأمن الغذائي الذاتي. سوف تُتيح مُناقشة القضايا الوطنية في مراكز التفكير الاستراتيجي عدة أمور مُترابطة تُعد جوهر صياغة الاستراتيجيات الكُبرى، أولها: تحديد الأهداف المرجوة وربطها بالاحتياج والقُدرة على التنفيذ؛ وثانيها: تحديد الأدوار، إذ أن هُناك مؤسسات معنيةٌ بتلك المسألة إلا أن كون مسألة تحقيق الأمن الغذائي مشروعاً وطنياً فإن كافة الجهات ستكون مدعوةٌ لدعمِ المشروع، ليس فقط بالمعنى الاقتصادي وإنما أيضاً مؤسسات المُجتمع المدني، بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام في التوعية بالمسألة، بالتوازي مع العمل التنفيذي والتشريعي؛ وثالثها: تحديد الموارد المُتاحة والمطلوبة مُستقبلاً لأن ذلك هو الركيزةُ الأساسيةُ للتنفيذ. وستكون دعوة مُمثلي المُنظمات الإقليمية والدولية، بالإضافةِ إلى خُبراء وأكاديميين من الدول الخليجية والعربية الشقيقة, فُرصةً مُهمةً لتبادل وجهات النظر والخبرات المُختلفة في التعامل مع ذلك التحدي، وهو ما يُتوقع أن يعكسهُ البيان الختامي للمُنتدى، الذي سوف يتضح من خلاله أوجه الاتفاق بين المُشاركين على أمورٍ عديدةٍ سواءً ما يرتبط بواقع ذلك التحدي أو كيفية مواجهته، فضلاً عن تحديد أبرز المعوقات لذلك وكيفية مواجهتها. ومع الأخذ بالاعتبار أن مسألة الأمن الغذائي تُعتبر تحدياً يواجه العديد من الدول، بل إنه يزداد حدةً في المناطق التي تشهد صراعاتٍ وأزماتٍ مُزمنة، فإنه يكتسبُ في الوقت ذاتهِ خصوصيةً في دول الخليج العربي ومن بينها مملكة البحرين، ومن ثم سيكون المُنتدى فُرصةً مواتيةً لمُناقشةِ مُقترحِ دولةِ الكويت بإنشاءِ شبكةٍ موحدةٍ لأمن إمدادات الغذاء، حيث تم تكليف الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية بإعداد الدراسات الفنية اللازمة لذلك، ومن ثم فإن ما سوف يُسفرُ عنه المُنتدى من نتائج من شأنهِ أن يُسهمَ في دعمِ ذلك المُقترح لتحقيق هدف التكامل الغذائي الخليجي عامةً وإبان الأزمات على نحوٍ خاص. ويعد ما يقوم به مركز «دراسات»، الذي حرص على انتهاج آليات ومعايير عمل مراكز التفكير الاستراتيجي المُماثلةِ في العالم، جزءاً من الجهود الوطنية، يتكامل معها بما لديه من شراكاتٍ بحثيةٍ مع عددٍ من مراكز الفكر المُماثلة على المُستويين الإقليمي والعالمي. { مُدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :