ناصر بن سلطان العموري abusultan73@gmail.com خلال الأسبوع الماضي، فقدتُ جدتي وجزء من عمري وذكرياتي، فهي الشجرة التي أنبتت والدتي- حفظها الله- وأخرجتها للوجود مزهرة يانعة خلقاً ودينا، رأيت يوم وفاة جدتي أمي الغالية تذرف الدموع كما لم أرها تذرفها من قبل إلا يوم وفاة أبي رحمة الله عليه؛ وقتها لم أستطع الكتابة ولا حتى الإمساك بالقلم، بقيتُ أياماً؛ بل شهورًا، وأنا في حالة شلل فكري وحسي.. رحلت جدتي وقد كانت نقطة جذب مُضيئة لتجمع الأهل والأحباب يوم اللقاء والمسرات وهي من تسمع منها الحكم والمواعظ والخبرات الحياتية بل هي رحمة الله عليها من كانت المستشار الذي يستشار ولا خاب من استشار لديها فقد كانت البلسم الشافي للجميع والحضن الدافئ والنبراس المنير لكل من يقصدها كنَّا نحس بروعة وجودها ولو عبر أسلاك الهاتف من خلال صوتها الحنون حين تمنعنا ظروف الحياة من رؤية محياها والإصغاء لحديثها الذي تتدفق منه الحكم والمواعظ وكأنها تتدفق من ينبوع عذب المذاق كان كل همها الاطمئنان علينا وعلى صحتنا وراحتنا. من أجمل ما قيل في حق الجدة ما وصفها به أحد الأدباء "هي ذلك الحضن الدافئ الذي استقينا منه الحنان ووجدنا تحت ضالته الأمان وتعلمنا منها أبجدية القيم والعادات فلا يُمكن أن ننسى الفرحة والبهجة التي تجلبها لنا العيون الساهرة في رعايتنا والمحبة في احتوائنا وكنا ننتظر حكايتها الشائقة تحت وقع القمر المنير وفي كنف الليل وهدوئه، فكان البيت يشع نوراً وبهاءً بها يسير وفق قانونها ونظرتها وكنَّا نتشوق ونترقب حديثها العذب الذي نتمنى أن يكون بلا نهاية". لعلنا نذكر عبر طيات هذا المقال ما تشير به الدراسات التربوية "أن الجدة تعتمد استراتيجية التربية بالحكايات فكثيرًا ما تدخل الحكايات عندما تريد ترسيخ مفهوم ما أو النهي عن فعل أمر ما قد يكون وقعه سيئاً للأطفال فالكثير من القيم تم اكتسابها من الجدة من خلال توجيهاتها ونصائحها في كيفية التعامل مع أصدقائنا والتصرف حيال الغرباء ومُواجهة عواصف الأزمات الحياتية لاسيما الاجتماعية منها". أما عن الجانب النفسي "فلا يستطيع أحد أن ينكر دور الجدة الكبير في تربية الأبناء والأحفاد فهي الركيزة التي تتمحور حولها كل العائلة، فالجدة هي المربية والمرشدة والموجهة والحنونة والتي تقدم خبرات السنين لأحفادها كي لا يتعثروا في طريقهم نحو المستقبل فالجدة مدرسة تربوية اجتماعية حياتية بكل ما تحمله الكلمة من معنى يتخرج فيها المرء بنجاح وبمهارات وكفاءات عالية الجودة ورفيعة المستوى في مواجهة تحديات الحياة بكافة أنواعها وأشكالها". رحلت جدتي ورحيلها لم يكن عاديًا، فقد كان رحيل أم وجدة حنون عظيمة بتواضعها رحيمة بمن حولها تفرح لغيرها أكثر من فرحها لنفسها تسعد العين لرؤيتها ويبتسم الثغر عند الحديث معها قربها جنة ولسانها حكمة هي تلك المرأة التي تخاف ربها هي تلك العفيفة التي كان أكبر همها الصلاة، وكم كانت فرحتها كبيرة عندما أتمت صيام شهر رمضان الفائت كاملاً رغم كبر سنها ومرضها.. رحمك الله يا جدتي الغالية فقد كنت جنة تمشي على الأرض، وصبّر الله أبناءك وأحفادك وكل من عرفك وعرف معدنك الأصيل على فراقك.. إلى جنات الخلد يا جدتي الغالية. وما أجمل وصف فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعرّي، لألم الفقد في قصيدته تعب كلها الحياة حين قال في بيت شعري منها: إنّ حُزْنًا في ساعةِ المَوْتِ // أضْعَافُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ
مشاركة :