رغم موقف روسيا الواضح من الأزمة السورية، فإن دخولها الميداني الثقيل كان مفاجئًا لأكثر المراقبين. ربما لهذا السبب يتحدث المحللون الآن عن عودة محتملة للنظام الدولي ثنائي القطبية، الذي رسم صورة العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991. وليس خفيًا أن استرجاع موسكو لدورها القديم يمثل واحدًا من محركات التأزم في العقيدة الاستراتيجية/ السياسية الروسية، سيما بعد حصول واشنطن على تسهيلات عسكرية في جورجيا، وقرغيزيا، وأوزبكستان، فضلاً عن انضمام جمهوريات البلطيق إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يضعها تحت حماية حلف الناتو. وكانت هذه الدول جميعًا جزءًا من الاتحاد السوفياتي قبل انهياره، وتعتبرها موسكو حزامًا حرجًا لأمنها القومي. خلال العقدين الماضيين، كانت روسيا مضطرة للاعتماد على الأسواق ومؤسسات التمويل والاستثمارات الأميركية والأوروبية لدعم اقتصادها الضعيف. ولذا، فقد ترددت في القيام بأي مبادرة تكبح التمدد الأميركي على حدودها. كما أن أبرز حلفائها المحتملين؛ أي الهند والصين، لم يثقوا كثيرًا بسياساتها على المدى المتوسط والبعيد، ولم يرغبوا في مصارعة الولايات المتحدة من أجلها. جاءت لحظة التغيير في 2013 حين انتفض الأوكرانيون ضد الحكومة الموالية لموسكو، وأقاموا حكومة جديدة أوروبية الهوى، فردت روسيا بضم إقليم القرم ذي الغالبية الروسية في العام التالي. وهو موقف أدى إلى فرض عقوبات أميركية وأوروبية قاسية ضد روسيا. أعتقد أن سلسلة العقوبات التي فرضها الغرب على شركات وشخصيات وقادة في الجيش الروسي، كانت اللحظة الفاصلة التي جعلت روسيا في قلب أزمة، طالما كان التخوف منها سببًا لترددها. ولهذا كان الرد الطبيعي عليها هو انبعاث النقاشات في روسيا، حول تراجع دورها العالمي وضرورة استعادته بأي طريقة. الصحافيون الذين شاركوا في معرض ماكس للطيران في أغسطس (آب) الماضي، لاحظوا أن الحكومة الروسية قد تعاملت معه كحدث استثنائي، فقد افتتحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًا، ودعي إليه عشرات من الشخصيات السياسية الأجنبية، وأعلن خلاله عن إطلاق معدات جوية وفضائية جديدة، بينها الميغ 41 المتعددة المهام، التي تنتمي إلى الجيل السادس، وهو الأحدث في مجال الطيران الحربي. تساءل المراقبون إن كان هذا الحشد الرسمي مجرد حملة تسويق دولية، أم تأكيدًا لعودة موسكو إلى منافسة واشنطن على الساحة الدولية. الأسلوب الذي تبعته روسيا في عملياتها في سوريا يثير الفضول هو الآخر. فهي احتاجت بضعة أيام فقط بعد إعلان وصول قواتها إلى اللاذقية كي تبدأ عملياتها الجوية. وهي اختارت أن تبدأ منفردة، ولم تقم بأي جهد لتشكيل تحالف دولي على غرار ما فعله الأميركيون. كما أن الحجم الأولي للعمليات كان واسعًا، بحيث ترددت أصداؤه في جميع الدول المهتمة بالأزمة السورية. بعبارة أخرى، فقد كان الدخول الروسي إلى الميدان احتفاليًا، يؤشر على المعاني السياسية المقصودة بأجلى الصور. ما هو الغرض المباشر إذن؛ أي كيف تستثمر موسكو الأزمة السورية لتحقيق استراتيجيتها الدولية الجديدة؟ أميل إلى الاعتقاد بأن غرض روسيا الفعلي هو فرض أجندتها الخاصة لمؤتمر جنيف- 3 . ويبدو أنها تستثمر التردد الأميركي، وأزمة اللاجئين في أوروبا. إنها، بكلمة أخرى، تستثمر الفراغ الذي خلفه إخفاق مشروع واشنطن لخلق معارضة على قياسها، وتستثمر انشغال العرب وأوروبا في قضاياهم الخاصة. انعقاد مؤتمر جنيف – 3، وفق الأجندة الروسية سيكون فاتحة إنجازاتها الكبرى في منطقة نفوذها التقليدية، وهو بوابة عودتها إلى المجال الدولي كصانع تغيير، لا مجرد مستشار لواشنطن كما كان الحال حتى وقت قريب. يمكن القول إذن إن سوريا قد تكون بوابة لعودة نظام الاستقطاب الثنائي في العلاقات الدولية. وهو تحول - إن حدث فعلاً - فسوف نرى عالمًا مختلفًا عما عهدناه خلال ربع قرن مضى.
مشاركة :