عبارة "سني الإقصاء والتنكيل منذ العام 1990 حتى العام 2005" التي تضمنها بيان الرئيس اللبناني ميشال عون، رداً على رئيس المجلس النيابي نبيه بري، كشفت مكنونات ومكبوتات العلاقة الحاكمة بين أطراف السلطة. بل إنها نكأت جراح تلك الحقبة واستعادت مآسيها المدمرة على لبنان. ويبدو أن هذه الحقبة، هي التي تحكم سلوك عون وفريقه السياسي المهجوس بعقدة الثأر من سني "الإقصاء والتنكيل"، لكن ليس من عام 1990 الذي أجلي فيه عون الى فرنسا، كي تنطلق عجلات الطائف في إعادة بناء الدولة وفق سياقاته المعلومة. فأغلب الظن أن عون لم يكن موفقاً في إجتزاء إستعادة تاريخ تلك الحقبة دون مقدماتها الحربية من حروب التحرير والإلغاء التي تخلّلها إنقسام الجيش بقيادته، ويومها قصف ميشال عون تلة الخياط وقصر الأونيسكو وغيرهما في بيروت والضاحية والجبل وغير منطقة. رغم هذا يحاول عون وفريقه أن يرتدوا ثوب المظلومية التي يدعوا حصرية استهدافها لهم. وهذا افتئات على تاريخ تلك الحقبة التي ستصنّف تاريخاً مختلفاً حوله، كما ستضم الى الكثير من الوقائع التاريخية المختلف حولها في كتب التربية والتاريخ في لبنان. وبدا سلوك عون وفريقه السياسي محكوماً بعقدة الثأر من تلك الحقبة ورموزها الذين تموضعوا في كنف إتفاق الطائف الذي يبدو أن ساكن قصر بعبدا لم يزل متمسّكاً في إضافة "الفاصلة" إليه. إنّها الفاصلة التي تعني تعديلات دستورية تستعيد الصلاحيات السليبة التي جعلها إتفاق الطائف بيد مجلس الوزراء مجتمعاً. إنّها الصلاحيات التي قدّم عون وكتلته النيابية مشروع قانون عام 2014 لإنتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب على دورتين، الأولى للمسيحيين، والثانية لبقية اللبنانيين. وبدل أن يجنح عون وفريقه الى تلقف فرصة إبرام مصالحة تاريخية ونهائية، فيبدو أنهم فضلوا الفاصلة على المصالحة، وبقي التاريخ عندهم أسير تلك الـ "،". ورغم مشروع القانون التعديلي، إضافة لكلام متعدّد لجبران باسيل حول تعديل الطائف بعدما نعته بأبشع النعوت والصفات، دون أن يضربه ميشال عون على لسانه، فإنهم يتنطحون للقول بتمسكهم بإتفاق الطائف الذي أُقرّ دون موافقة عون وحزب الله الذي كان وليداً في طور التأسيس، وكانت دفة القيادة يومها معقودة اللواء لنبيه برّي. وبالعودة الى حرب السجالات القائمة بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي على خلفية إضطلاع الأخير بدور الوساطة بين طرفي تشكيل الحكومة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف، وهو الدور الذي فوّضه زعيم حزب الله الى نبيه بري. إنها الوساطة التي بدا بري في رسمها التشبيهي، أشبه بفتوة الحارة الذي عليه أن يصالح أولاد الحارة فيما بينهم. بهذه البساطة تظهّر المشهد الذي بدا فيه نصر الله وكأنه أراد أن ينزع عن ميشال عون صفتي الحياد والحَكَم، وهو الأمر الذي دفع عون الى التصويب على بري ومبادرته من دون أن يوفر بشكل مباشر حزب الله نفسه الذي وبحسب عون "وقف الى جانب الباطل ضد الحق"، وهو بهذا التلطي بمقولة الإمام علي انما توخى أن يضرب قيم وأخلاق ومصداقية نصر الله الذين لطالما كانوا محل إمتداح مزمن من عون وفريقه. عشاق الأمس، باتوا اليوم باتوا على مفترق طرق. فعون يريد من حزب الله أن ينصره في معركته ضد نبيه بري وسعد الحريري. فيما حزب الله بات كمن يبلع الموس، فظروف الوضع الحالي لا تسمح للحزب بهذه المفاضلة التعجيزية خصوصا مع نبيه بري، وهي المفاضلة التي إن تمّت فستؤدي حتماً الى توتر العلاقة وتدهورها بين طرفي الثنائي الشيعي، وهذا ما تستبطنه مفاضلة فريق عون المطلوبة تماما كما تستبطن تدهورا ممثلا مع الطائفة السنية خصوصا بعدما دعّم أقطابها من دار الفتوى والمجلس الشرعي الأعلى ورؤساء الحكومة السابقين فضلاً عن غالبية نواب اللقاء التشاوري السني سابقا، موقف سعد الحريري في تشكيل حكومة اختصاصيين بدون ثلث معطل لأحد، لكن رغم هذا ألا يستحق إستمرار تحالف الحزب مع عون وفريقه السياسي 7 أيار جديد!. حزب الله قدّم كل مستلزمات الوفاء لميشال عون بأن أسكنه في قصر بعبدا مكافأة على موقفه أثناء حرب تموز. لكنّ حزب الله لا يستطيع مجاراة عون وفريقه في معاركهم الدينكشوطية ضد طواحين الهواء. لقد استفاد طرفا "تفاهم مار مخايل" الى حد تورّم أحجامهما السياسية وإمكانياتهما المادية تغولاً في الدولة وعبر الحدود. لكن فريق عون باسيل يريدان إستلام الدفعة الأخيرة من تفاهم مار مخايل قبل رميه في سلة المهملات. إنها الدفعة المتمثلة في إيصال وريث ميشال عون الإيديوسياسي جبران باسيل الى قصر بعبدا وفرضه رئيساً لجمهورية الأشلاء والأمونيوم والكابتغون وأيضا صفقات البواخر والسدود الهوائية لا المائية وغيرها من مروحة الصفقات التي تقاسمتها المنظومة حتى أجهزت على البلاد والعباد، وأفلست خزينة الدولة وسرقت أموال اللبنانيين وأحلامهم ومستقبلهم. الإستعصاء سيّد الموقف في لبنان، والمشكلات بدت أعمق من قدرة أطراف منظومة الفساد والمال والسلطة والسلاح والأمونيوم والكابتغون. وكسر حلقات الإستعصاء يمرّ حتما بكسر أحد طرفي الأزمة في لبنان، وهم ميشال عون وفريقه من جهة، وتحالف بري الحريري جنبلاط من جهة ثانية، فيما يحاول حزب الله البقاء على الحياد كضابط للتوازنات، لكن في حال فرض الموقف على نصرالله إتخاذ موقف مع أحد الطرفين، فسيكون ولاعتبارات كثيرة حتماً الى جانب تحالف بري الحريري. لكن هل وقوف حزب نصر الله الى جانب بري سيحل المشكلة؟ أغلب الظن أنه سيزيد المسألة تعقيداً، لكنه سيخلق توازن قوى جديد، مؤدّاه إحكام الطوق حول عون وفريقه. إنّه الطوق الذي سبق ودفع باسيل في سياق سعيه لكسره خصوصاً بعد تصنيفه فاسداً وفق قانون ماغنيتسكي العالمي، للإستعانة بصديقه وزير خارجية هنغاريا بهدف تقويض العقوبات الأوروبية المحمولة على أنصبة الثأر للخيانة الجماعية التي سبق وتعرض لها الرئيس الفرنسي ماكرون من المسؤولين اللبنانيين. وهو الطوق الذي سبق وتحسب له جبران باسيل عندما نجح في إبتزاز حزب الله عندما تمكن أن يفرض على حكومة حسّان دياب إعادة إقرار "معمل سلعاتا الكهربائي"، في سيق تأمين وحماية الأمن المسيحي الكهربائي. وعندما وُوجه باسيل بأن هذا الكلام يستبطن "فيدرالية مموّهة"، أجاب باسيل نحن على استعداد للذهاب الى ما هو "أبعد من الفيدالية"، ويومها لم يكن ميشال عون قد بشّر اللبنانيين أنهم ذاهبون الى جهنم. القطبة غير المخفية في صراع أطراف المنظومة تكمن في محاولة فريق عون باسيل فرض "مقايضة مسمومة" مستنسخة من التسوية المسمومة اياها. مقايضة تضمن مستقبل باسيل الرئاسي، مقابل مستقبل الحريري الحكومي، وهذه المقايضة مع أو بدون الفيدرالية الباسيلية الموعودة وسائل لتأبيد إقامة اللبنانيين في ما بعد جهنم التي تجاوز سعر الدولار فيها الخمسة عشرة ألف ليرة، في لحظة يتسوّل فيها الجيش اللبناني بوصفه حامي الحمى والكرامة الوطنية وجبة طعامه ممّا تجود به مكرمات الدول القريبة والبعيدة، ويفتقد فيها الأطفال حتى علبة الحليب. حمى الله لبنان من شرّ ما خلق.س
مشاركة :