تغيرت لهجة التخاطب بين باريس وأنقرة، وهذا المنحى الذي انطلق مع بداية العام الحالي، تأكد بعد زيارة وزير الخارجية التركي إلى باريس في السادس من الشهر الحالي تمهيداً لاجتماع الرئيسين إيمانويل ماكرون، ورجب طيب إردوغان، الذي حصل في بروكسل، على هامش أعمال الحلف الأطلسي بداية الأسبوع المنتهي. ثم جاءت تصريحات الأول لتؤكد أن الطرفين اتفقا على العمل معاً من أجل خروج قوات المرتزقة من ليبيا. عقب ذلك، كشف النقاب عن «خطة» لماكرون ناقشها مع الرئيس الأميركي بايدن وإردوغان تمتد لستة أشهر تنص على انسحاب المرتزقة السوريين والروس، ولكن أيضاً القوات التركية نفسها الموجودة على الأراضي الليبية بصفة مستشارين أو بشكل وحدات دعمت حكومة «الوفاق» في مواجهتها مع المشير خليفة حفتر. وكل هذه البادرات ينظر إليها في باريس على أنها إيجابية، الأمر الذي أكده أمس وزير الخارجية جان إيف لو دريان، في مقابلة مع القناة الإخبارية «بي إف إم». بيد أن باريس ما زالت حذرة إزاء المسار الجديد لعلاقاتها مع أنقرة، خصوصاً إزاء وعود التعاون والعمل المشترك التي أغدقها إردوغان على ماكرون. وقال لو دريان في المقابلة المذكورة «ثمة ما يمكن اعتباره وقف إطلاق نار لفظي (مع تركيا)، وهذا لا بأس به، ولكنه غير كافٍ». وأضاف أن التطور المشار إليه «لا يعني أنه قد تحول إلى أفعال، والحال أننا ننتظر هذه الأفعال بخصوص مسائل حساسة»، مشيراً بالاسم إلى ليبيا وسوريا والمسائل الخلافية بين أنقرة من جهة، وأثينا ونيقوسيا من جهة أخرى، حول ثروات الغاز في مياه المتوسط الشرقي وبشأن قضية قبرص. وختم لو دريان بقوله: «سوف نرى ما إذا كان قد تغير ليس فقط في الكلام ولكن أيضاً في الأفعال». حتى أمس، لم تكن قد خرجت ردة فعل تركية رسمية على «خطة» الرئيس ماكرون التي تنص على انسحاب سريع للمرتزقة السوريين الذين أتت بهم تركيا بموجات متلاحقة منذ نهاية عام 2019، ويقدر عددهم حالياً بـ13 ألف رجل يعقبها في مرحلة لاحقة انسحاب مرتزقة مجموعة «فاغنر» الروسية والقوات التركية. وتفيد مصادر رسمية في باريس بأن «المعضلة» ليست مصير المرتزقة، بل رفض الطرف التركي خروج مستشاريه ووحداته وأسلحته من ليبيا، لأنه يعتبر أنها جاءت بطلب من الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، وعملاً باتفاق رسمي موقع من الطرفين، وبالتالي فإن وجودها شرعي، وسيكون دائماً حسب التصريحات المتكررة للمسؤولين الأتراك. تجدر الإشارة إلى أن هذه المسألة تثير انقسامات حادة في صفوف السلطات الليبية الحالية، والدليل على ذلك الانتقادات الحادة التي توجه إلى وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، بسبب مطالبتها الثابتة بخروج الأتراك من البلاد. انطلاقاً من هذه المعطيات، فإن أنقرة ستكون تحت المجهر يوم الأربعاء المقبل بمناسبة انعقاد مؤتمر «برلين 2» على مستوى وزراء الخارجية للأطراف المدعوة، المخصص للأزمة الليبية، وعلى جدول أعماله تثبيت الاستقرار والتحضير للانتخابات نهاية العام الحالي، ولكن أيضاً انسحاب القوات الأجنبية المختلفة من الأراضي الليبية. ثم هناك استحقاق آخر عنوانه قمة قادة الاتحاد الأوروبي يومي 24 و25 يونيو (حزيران) في بروكسل، حيث سيحضر الملفان التركي والليبي. لذا، فإن الفرصة التي يتحدث عنها لو دريان لجهة التأكد من مدى جدية الوعود التركية بشأن ليبيا ستتوفر في الأيام القليلة المقبلة. وليس سراً أن باريس انتقدت بشدة إردوغان للنهج الذي يتبعه في أكثر من قضية، حيث يعد من جهة ولا يفي من جهة أخرى. وسبق لماكرون أن أشار إلى ذلك في أكثر من مناسبة، منها ما يتناول التزام الرئيس التركي، في مؤتمر «برلين 1» في 19 يناير (كانون الثاني) من العام الماضي بوقف تدفق الأسلحة من بلاده على ليبيا. والحال أن ما حصل هو العكس تماماً، إذ استمر تدفق الأسلحة، ومعها المرتزقة السوريون الذين تغريهم أنقرة بمكافآت مالية عالية، وهي تغرف من صفوف المعارضة السورية التي تحولت بين يدي إردوغان، إلى ميليشيات متنقلة من ليبيا إلى أذربيجان وناغورني قره باغ وغيرها من مناطق النزاع، بما في ذلك سوريا نفسها، في حرب الرئيس التركي على «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية في الشمال والشمال الغربي السوري.
مشاركة :