في قلب جزيرة بورنيو الإندونيسية تقع محطة الأبحاث في منتزه سيبانجو الوطني في وسط منطقة كاليمانتان، وهي واحدة من الغابات الاستوائية الرطبة في الجزيرة. هذا النوع من الغابات يلعب دورا حاسما في التخفيف من تغير المناخ لأنه ينمو على أراضٍ رطبة تسمى «الخث»، بها مادة عضوية متحللة جزئيا محتجزة في الماء منذ آلاف السنين. يمنع الماء الغني بالتانين الميكروبات من التحلل الكامل للمادة وإطلاق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. حتى الآن، نجا متنزه سيبانجاو من مصير الغابات الأخرى الغنية بالكربون التي تمت إزالتها لإنتاج الأرز في التسعينيات. في عهد الرئيس سوهارتو، حولت إندونيسيا 1.6 مليون هكتار (ما يقرب من 4 ملايين فدان) من غابات «الخث» لمشروعه الضخم لزراعة الأرز، والذي أصبح أحد أكبر الكوارث الزراعية في العصر الحديث. فشل الأرز في النمو في التربة الحمضية، واستنزفت قنوات الري التي تم بناؤها المياه التي غمرت غابات «الخث». والنتيجة: جفاف هذه الأراضي التي احترقت بشكل متكرر، لتنشر الضباب عبر جنوب شرق آسيا. الجحيم المتكرر لأراضي «الخث» في إندونيسيا يعد تهديداً خطيراً لصحة شعبها وجيرانها، ويتسبب في ارتفاعات كبيرة في انبعاثات الكربون داخل إندونيسيا التي تساهم في أزمة المناخ العالمية. في عام 2015، احتلت إندونيسيا المرتبة الرابعة في العالم من حيث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، متقدمة على القوى الصناعية مثل اليابان وألمانيا. ومثلما يؤدي تنظيف حوض نهر الأمازون إلى استنفاد قدرة غاباته الاستوائية على امتصاص الكربون والاحتفاظ به، فإن سوء إدارة الأراضي الرطبة «الخث» في إندونيسيا يجعل من الصعب الحد من انبعاثاتها. في 2019، كانت أراضي الخث التي طالها الجفاف في إندونيسيا تشكل 76% من حرائق الغابات، وفقا لتحليل أجراه «ديفيد جافو»، عالم بيئة المناظر الطبيعية الذي يدرس إزالة الغابات. في العام نفسه، بدأت ما لا يقل عن نصف الحرائق الضخمة في جزيرة «بورنيو»، في وسط كاليمانتان، بحسب «فاتخورهمان»، مستشار التخطيط في بالانجكارايا، عاصمة المقاطعة. والآن، فإن خطة الرئيس الإندونيسي «جوكو ويدودو» لهذه الأرض المتدهورة تتمثل في زراعة الأرز بكميات هائلة، حتى يكون لدى أمة يبلغ عدد سكانها 276 مليون نسمة ما يكفي من الطعام، باعتبار أن زراعة الأرز في «بورنيو» ستنشر الرخاء أيضاً وتساعد في منع حرائق الغابات. لكن الأمر سيكون مختلفا هذه المرة، تصر الحكومة الإندونيسية على أن التكنولوجيا والتخطيط الأفضل سيجعلان مشروعه ينجح فيما فشل فيه سوهارتو. إنها استراتيجية عالية المخاطر لها عواقب تتجاوز حدود إندونيسيا، نظرا لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري الهائلة. في مركز أبحاث سيبانجاو الذي يديره مركز التعاون الدولي في الإدارة المستدامة للأراضي المدارية الخثية (CIMTROP)، يعد مشروع زراعة الأرز الجديد مدعاة للقلق. يقول «كيتسو كوسين»، كبير الباحثين، إن إندونيسيا بحاجة إلى الحفاظ على ما تبقى من غابات مستنقعات الخث مثل سيبانجاو وإعادة زراعة أراضي الخث المتدهورة بأشجار محلية. ويشعر كوسين هو وغيره من النقاد بالقلق من أن تحويل هذه المناطق إلى أراض زراعية على نطاق واسع يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الحرائق المدمرة والضباب المميت. وحسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «الفاو» تغطي الأراضي الخثية 3 في المائة فقط من سطح الأرض، ولكن مخزونها من الكربون يعادل مخزون كافة النباتات على سطح الكوكب، وهو ما يؤكد بشكل واضح على دورها المحوري في تنظيم المناخ العالمي. ويؤدي تدهور هذه الأراضي، عن طريق الاستنزاف أو الحرائق أو غيرها من العوامل، إلى تحويلها من بالوعات كربون بطيئة إلى مصادر سريعة قادرة على إطلاق الكربون المخزن على مدى آلاف السنين في غضون بضعة عقود. هناك أيضا أسئلة جدية حول فعالية التكنولوجيا التي تكمن وراء أهداف الإنتاج الحكومية الطموحة. وماذا يحدث للمزارعين إذا قاومت أراضي «الخث» جهودهم، يقول «كوسين» إن مشروع الأرز الخاص بسوهارتو «جعل وسط كاليمانتان مصدرا للكارثة». وإذا فشل المشروع الجديد، فإنه يحذر: «سنكون الضحايا مرة أخرى». في البداية، تم وضع خطة إندونيسيا لإنتاج الأرز والمحاصيل الغذائية الأخرى كاستجابة للوباء وخطر نقص الغذاء الدولي. في سبتمبر 2020، قال ويدودو: «توفير مخزون الغذاء هو جدول أعمال استراتيجي نحتاج إلى اعتماده لتوقع أزمة الغذاء الناجمة عن جائحة كوفيد-19». ستغطي مزارع الغذاء التي اقترحها ويدودو في نهاية المطاف مساحة أكبر حتى من منطقة سوهارتو: ما لا يقل عن مليوني هكتار من الأراضي في جزيرة سومطرة وفي كاليمانتان، وهي منطقة مجتمعة أكبر من ولاية كونيتيكت. تتمثل المرحلة الأولى في زراعة الأرز على مساحة 165000 هكتار من أراضي مشروع الأرز الضخم السابق في كاليمانتان. يقول «ييي سليمان»، رئيس وكالة أبحاث الزراعة في الأراضي الرطبة التابعة لوزارة الزراعة، إن هذه المرحلة من المشروع ممكنة لأن الحرائق المتكررة استهلكت الأراضي الخثية، ولم يتبق سوى طبقة رقيقة من التربة الخثية والمعدنية لزراعة الأرز عليها. ويضيف أن المشروع يمكن أن يكون أيضا استراتيجية لمنع حرائق الغابات. ويؤكد: «إذا واصلنا إهمال هذه الأراضي المتدهورة، فإن فرصة اندلاع حرائق الغابات ستكون أكبر». ولكن عندما يتم استخدام الأرض للزراعة، فإن المزارعين سيعتنون بها ويخمدون أي حرائق غابات. *صحفية مقيمة في إندونيسيا ومتخصصة في تغطية الأخبار العلمية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»
مشاركة :