ظلت التكنولوجيا الحديثة بكل أشكالها ومواقع التواصل الاجتماعي المتعددة حكراً على الشباب وصغار السن لسنوات طويلة، حتى قرر الآباء والأجداد اقتحام هذا العالم، ليس فقط للاطلاع على ما يتابعه أولادهم، ولكن لتكوين صداقات وعلاقات اجتماعية جديدة، والتواصل مع الأصدقاء والزملاء القدامى، ليثبت العلم الحديث أن استخدام الفئات الأكبر عمراً لهذه المواقع له العديد من الفوائد النفسية والصحية لهم، فهي تخرجهم من العزلة وحالات الاكتئاب وتحميهم من العديد من الأمراض مثل الزهايمر. في التحقيق التالي نستعرض بعضاً من تجارب الكبار مع مواقع التواصل الاجتماعي.. بعد عيد مولدها الستين قررت ألّا تستسلم للوحدة، فالأحفاد قدموا الهدايا والأبناء أعدوا الحفل، وفي نهاية اليوم عاد الجميع إلى منازلهم، أما هي فبقيت وزوجها بين جدران البيت الصامتة القاتمة، وعندما جاء حفيدها ليريها صور الحفل على جهاز الآي باد الخاص به، بعد أن حملّها على موقع فيس بوك شعرت بسعادة بالغة حين قرأت التعليقات والمشاركات، فطلبت منه جدته، المديرة السابقة، رئيفة عبدالله، أن يصمم لها صفحة، ويبقى معها حتى تتقن كل المهارات الإلكترونية، فما كان منه إلّا أن علمها، ونقل لها خبرته، لتتولى هي تحميل كل الصور العائلية للأبناء والأحفاد على هذه الصفحة. تقول رئيفة: حمّلت العديد من الصور القديمة ذات اللونين الأبيض والأسود التي كنت أحتفظ بها، وتواصلت مع أقاربي في العديد من الدول العربية والأجنبية، وأصبحت بيننا لغة حوار وتواصل مستمرين من خلال البرامج الهاتفية المجانية، فما أروع التكنولوجيا إذا استخدمت بطريقة مفيدة. لم يجد ثروت سرور الجد السبعيني، والكاتب، مفراً من اللجوء إلى عالم الفضاء الرقمي للتعبير عما يدور في خلده من هموم ومشاكل وخواطر اعتاد أن يكتبها ويبوح بها عبر صفحات جريدته، التي باتت بعيدة عنه، كان عليه أن يستسلم لاستخدام الأجهزة الذكية بدلاً من أن تظل أفكاره حبيسة رأسه. طلب من أحد أحفاده عمل صفحة خاصة تحمل اسمه ليفاجأ بعدها بسيل من الترحيبات والتهاني من القراء والزملاء من مختلف المراحل العمرية ممن أرسلوا لها طلبات للإضافة والتواصل. وعلى الرغم من تواصله وكتابته للعديد من المقالات الإلكترونية فإن تلك التكنولوجيا لم تمنعه من الاعتماد على الورقة والقلم في الكتابة، ومن ثم ينقل أحد أحفاده ما كتبه على صفحته، فهو لا يجيد التعامل مع الأجهزة الحديثة التي تعتمد على اللمس، لكنه يشعر بالسعادة فور أن ينال علامات الإعجاب. الجدة أم أحلام (67 عاماً) تعتمد في قراءاتها اليومية للأخبار والأحداث المحلية والعالمية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيس بوك، وإنستغرام، مؤكدة أن هذه المواقع سلاح ذو حدين، للكبار والصغار، فهناك من يستخدمها في خدمة المجتمع ولنشر أفكار إيجابية ومعلومات عامة، وهناك من يستخدمها لتحقيق أَضرار بالقيم والعادات والتقاليد العربية الأصيلة التي تربينا عليها وعلمناها للأولاد والأحفاد. تقول الجدة: أحاول أن أنقل أفكاري أو أعلق على العديد من الأحداث اليومية والأمور الحياتية التي نمر بها، مثلما أعرف الأخبار بشكل سريع من دون التقيد بزمان أو مكان من خلال هذه المواقع المحملة على الهواتف التي نحملها بشكل دائم، وإذا كان البعض يرى أن هذه المواقع يجب أن تقتصر على الأجيال الشابة فهو مخطئ، لأن معظم أفكار ومناقشات الشباب تتسم بالسطحية وتقديم معلومات خاصة وشخصية لا تفيد أحداً، لكن الكبار لديهم تجارب وخبرة ومناقشاتهم قوية تحمل هدفاً ورسائل. تؤكد أم أحلام، أن استخدامها لهذه المواقع لم يؤثر على متابعتها للصحافة المطبوعة، فبالنسبة لها الجريدة هي الأصل، تقول: منذ أكثر من 20 عاماً، والأخبار كلها أعرفها من الصحافة بشكل يومي، ورغم متابعتي لمواقع التواصل الاجتماعي إلّا أنها لم ولن تؤثر في علاقتي بالجريدة التي أتابعها يومياً. هل احتكر الشباب كل شيء، ولم يبق لنا إلّا القبر؟، بهذا التساؤل تبدأ الأم والجدة محاسن حسن، كلامها، وتضيف: عملت طوال سنوات عمري معلمة، ثم ناظرة مدرسة، وحين جاء سن التقاعد وجلست في المنزل، كان الاكتئاب رفيقي لشعوري بالوحدة والعزلة الشديدتين، فأولادي لديهم أعمالهم وبيوتهم، وزوجي توفاه الله، حتى أقدمت حفيدتي يمنى على إنشاء صفحة لي على موقع (فيس بوك) وبعدها بحثت عن صفحة المدرسة التي كنت أعمل بها، وأرسلت لهم طلب إضافة، وأضافني كل المدرسين والمدرسات وبقيت على تواصل دائم معهم، حتى تلاميذي الذين تخرجوا، تواصلوا معي وأصبح عندي العديد من الصداقات الإلكترونية التي أخرجتني من الاكتئاب والوحدة. وعلى الرغم من التأثيرات السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي على شرائح كثيرة من المجتمع والتي باتت معروفة، إلّا أنه وجد مؤخراً أنها ربما يكون لها آثار إيجابية في مجموعة أخرى، كثيراً ما تكون مهمشة، ألا وهي كبار السن، بحسب ما تؤكده الدكتورة رشا عصام بسيم استشاري الطب النفسي، والأستاذ المساعد في كلية الطب جامعة عين شمس بالقاهرة. وتضيف: مواقع التواصل تلك تُبقي الكبار على اتصال دائم ومستمر مع العالم، فيتبادلون الحوارات، ويتواصلون مع الأصدقاء القدامي، ويطّلعون على مجريات الأمور والمستجدات من الأحداث، ما يمكنهم من التواصل بفاعلية مع الآخرين، فالوحدة والشعور بالانعزال عن المجتمع، هما أكثر ما يعانيه كبار السن، خصوصاً إذا ما أصبح الشخص وحيداً بعد وفاة رفيق دربه، وانشغال الأبناء بتفاصيل الحياة وعائلاتهم الصغيرة. كما أنها توضح أن مثل هذا النوع من التواصل يؤخر شبح مرض الزهايمر أو ما يُعرف بخرف الشيخوخة، لأن العقل يستمر في العمل والتفكير والتحليل، حين يدخل أحد كبار السن في حوار عن قضية ما تشغل الرأي العام أو ما شابه ذلك، فضلاً عن الفوائد الإنسانية الأخرى المتمثلة في التواصل وإدخال البهجة إلى قلوبهم وإحساسهم بأنهم ليسوا منعزلين في جزر بعيدة عن الناس والمجتمع بأي شكل من الأشكال. الدكتور حسين العثمان، مساعد عميد كلية الآداب للدراسات العليا في جامعة الشارقة، يعترض بشدة على استخدام لفظ كبار السن، ويقول: من الممكن أن نعتمد على استخدام كلمات مثل الأكبر عمراً، فأعمار مثل 50 و60 سنة، لم نعد ننظر لها باعتبارها أعماراً كبرى، وعلمياً الشباب هم الأكثر إقبالاً واستخداماً لكل ما هو جديد، وهذا أمر طبيعي ومعتاد، فكل الوسائل التكنولوجية والأجهزة الذكية الشباب هم من اعتمدوا عليها، أما الفئات الأكثر عمراً فغالباً تعاملوا مع هذه الأنماط الحديثة من وسائل التواصل بكل أشكالها عن طريق أحد الأبناء أو الأحفاد، خصوصاً أنهم في بدايتها يرفضونها لكنهم مع الوقت نفسه، يقبلون عليها ويستخدمونها حتى ولو كان هذا استخداماً بسيطاً. ويضيف العثمان أنه يجب ألّا تقتصر الأشياء على أجيال أو فئات معينة، فالتكنولوجيا حين صُممت كان الهدف منها خدمة المجتمع ككل، من دون الحكر على أحد، واستخدام الآباء لها والفئات الأكبر عمراً يعد أمراً مهماً جداً لقضاء وقت الفراغ، أو تكوين صداقات من شأنها أن تساعدهم على تفريغ الطاقات والخروج من الوحدة. فيس بوك يحسّن الذاكرة اكتشف باحثون في جامعة تورنتو الكندية، أن كبار السن، الذين تتراوح أعمارهم بين 68 و91 عاماً، ويستخدمون موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، يمكن أن تحدث لهم طفرة رهيبة في وظائف الإدراك والذاكرة الخاصة بهم ، وتتحسن قدرتهم العقلية الخاصة بنسبة تصل ل25%، كما تتكون لديهم مهارات جديدة لم تكن موجودة من ذي قبل. وأوضحت الدراسة الكندية التي نشرتها مجلة ساينس العلمية أن الدماغ لديه القدرة على حفظ العبارات التي تكتب على فيس بوك أكثر من الوجوه، وهذا ما يعطي أهمية لدور مواقع التواصل الاجتماعي في تحسين الذاكرة لدى المستخدمين من كبار السن. وأخضع الباحثون عينة من مستخدمي شبكة التواصل الاجتماعية في عمر 68 عاماً، ومجموعة ثانية تتراوح أعمارهم بين 19 و20 عاماً، لسلسلة من التجارب حول تذكر قائمة مؤلفة من 20 كلمة وصورة. وتبين لهم أن إجابات الأصغر سناً، كانت قليلة التطابق مع الصور والكلمات المدونة بالقرب منها، مقارنة بإجابات صحيحة ومتطابقة عند المستخدمين الأكبر سناً. كما أشارت دراسة طبية ثانية أجراها باحثون من جامعة إكسيتر البريطانية إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيس بوك، تساهم في الحد من شعور كبار السن بالوحدة والعزلة، كما تساهم في تعزيز الصحة العقلية لدى كبار السن وتعزز ثقتهم في أنفسهم.
مشاركة :