الدوحة - الراية: دعا الشيخ عبد الله السادة الأمة الإسلامية إلى الصبر على الابتلاء وعدم استعجال النصر دون أن تتعرف على معوقاته وبذل أقصى ما أتاها الله من قوة، وآخر ما تملكهُ من رصيدٍ، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا، إلاَّ وتبذلهُ هينًا رخيصًا في سبيل الله من أجل تحقيق النصر. وأشار في خطبة الجمعة التي ألقاها أمس إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش فترةً من حياته والمسلمون معهُ في مكة، ظروفَ المحنةِ وشدةَ الابتلاء، حتى جاءَ اللهُ بالنَّصرِ والفتحِ المبين، وعادَ المُحاربون له مسالمين مؤمنين، بل وفي عِداد الغزاة الفاتحين.اللهمَّ - صل وسلم عليه - وعلى سائر المرسلين، وارضِ اللهمَّ عن الصحابةِ والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" وقال السادة: يتكررُ في فتراتٍ من التاريخ، لمن تأملَ انسياح الإسلامِ في الأرضِ وغلبة المسلمين، أو انحسار مدَّ الإسلام وهيمنة غير المسلمين، وإذا كانت أكثريةُ المسلمين تلتزمُ بالإسلامِ في حالةِ غلبته، فإنَّ القلةَ من المسلمينَ من يتمالكُ نفسهُ، ويلتزمُ بمقتضياتِ العقيدة والدين، ويصبرُ على المحن، في حالِ غلبةِ أعداءِ الدين، إذ من الناسِ من يُصابُ بالهلعِ وفقدان الثقةِ بنصرةِ هذا الدين، ويُصابَ آخرون بالإحباطِ واليأس والقنوطِ من رحمة الله، والتسخطِ لأقدارِ الله، وتلك أدواءٌ قاتلة، وهي منافية لحقيقةِ التوحيد، من الصبر واليقين، والتقوى والتوكل على رب العالمين. وأضاف: هذا الشعورُ قديم، وهذهِ الفتنةُ غير مستحدثة، وهذا الهاجسُ تحدثَ عنه العلماء السابقون، وذلك حين أصيبت الأمة، وكادَ اليأسُ يلفُّ بعضِ المنتسبين للإسلام. يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، (وهُنا نكتةٌ نافعة، وهي أنَّ الإنسانَ قد يسمعُ ويرى ما يصيبُ كثيرًا من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا في المصائب، وما يصيبُ كثيرًا من الكفَّار والفجَّار في الدنيا، من الرياسةِ والمال وغير ذلك، فيعتقدُ أنَّ النعيمَ في الدنيا لا يكونُ إلاَّ لأهلِ الكُفر والفجور، وأنَّ المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقدُ أنَّ العزةَ والنُّصرةَ قد تستقرُ للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاءَ في القرآن من أنَّ العزةَ لله ولرسولهِ وللمؤمنين، وأنَّ العاقبةَ للتقوى، وقول الله تعالى: "وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" وهو ممن يصدقُ بالقرآن حملَ هذه الآيات على الدارِ الآخرة فقط، وقال: أمَّا في الدنيا فما نرى بأعيننا إلاَّ أنَّ الكفارَ والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين.. إلخ. وقال: نستبطئُ النصر أحيانًا ونحنُ بعدُ لم نُقدمُ للنصرِ ثمنًا، ونستعجلُ النصرَ وقد لا يكونُ حانَ وقته بعد، ونتطلعُ إلى تغيرٍ مفاجئٍ في العالم، ونحنُ بعدُ لم نغير ما بأنفسنا، وبالجملةِ فهُناك معوقاتٌ للنصرِ، وأسبابٌ لتأخره، يعرفها العلماء، ويجهلها البسطاء، وأسوقُ لكم طرفًا منها، استجمعها بعض العلماء، فاعقلوها وقارنوا واقعَ المسلمين بها حيث قال أحد العلماء (والنصرُ قد يُبطئُ لأنَّ بنيةَ الأمةِ المؤمنة لم ينضجُ بعد نضجها، ولم يتمُّ بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خليةٍ وتتجمع، لتعرف أقصى المدخور فيهما من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكًا، لعدمِ قُدرتهما على حمايتهِ طويلاً). مؤكدًا أن النصر قد يبطئُ حتى تبذلَ الأمةُ المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخرُ ما تملكهُ من رصيدٍ، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا، إلاَّ وتبذلهُ هينًا رخيصًا في سبيل الله. وقد يبطئُ النصرُ حتى تجرب الأمةُ المؤمنة آخر قواها، فتُدرك أنَّ هذه القوى وحدها بدون سندٍ من الله لا تكفلُ النصر، إنَّما يتنزلُ النصرُ من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها، ثُمَّ تكلُ الأمر بعدها إلى الله وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ البيئةَ لا تصلحُ بعدُ لاستقبالِ الحقِّ والخيرِ، والعدلَ الذي تمثلهُ الأمةُ المؤمنة، فلو انتصرت حينئذٍ للقيت معارضةً من البيئةِ لا يستقرُ معها قرار، فيظلُ الصراعُ قائمًا حتى تتهيأ النفوسُ من حوله لاستقبالِ الحقَّ الظافر لاستبقائه، من أجلِّ هذا كله، ومن أجل غيرهِ مما يعلمهُ الله، قد يبطىءُ النصر، فتتضاعفُ التضحيات، وتتضاعفُ الآلامُ، مع دفاعِ الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وقد يبطئُ النصرُ لتزيدَ الأمةُ المؤمنة صلتها بالله، وهي تُعاني وتتألم وتبذل، ولا تجدُ لها سندًا إلاَّ الله، ولا متوجهًا إلاَّ إليهِ وحده في الضراء، وهذهِ الصلةُ هي الضمانةُ الأولى لاستقامتها على النهجِ بعد النصر، عندما يأذنِ به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحقِّ والعدل، والخير الذي نصرها الله به. مضيفًا: إن النصر أيضًا قد يبطئ لأنَّ الأمةَ المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها، وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تُقاتلُ لمغنمٍ تُحققه، أو تُقاتلُ حميَّةً لذاتها، أو تُقاتلُ شجاعةً أمام أعدائها، واللهُ يريدُ أن يكون الجهادُ له وحدهُ وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأُخرى التي تلابسهُ، وقد سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرجلُ يُقاتلُ حميةً، والرجلُ يُقاتلُ شجاعةً، والرجلُ يُقاتلُ ليرى فأيَّها في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله" كما قد يبطئُ النصرُ، لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحهُ الأمة المؤمنة بقيةً من خيرٍ يريد للهُ أنَّ يجردَ الشرَّ منها ليُمحِّص خالصًا، ويذهبَ وحدهُ هالكًا، لا تتلبسُ بهِ ذرةٌ من خيرٍ تذهبُ في الغمار. وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ الباطلَ الذي تحاربهُ الأمةُ المؤمنة لم ينكشف زيفهُ للناسِ تمامًا، فلو غلبهُ المؤمنون حينئذٍ، فقد يجدُ لهُ أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفسادهِ وضرورة زواله، فتظلَ له جذورٌ في نفوسِ الأبرياءِ الذين لم تنكشف لهمُ الحقيقة، فشاءَ اللهُ أن يُبقى الباطلُ حتى يتكشفَ عاريًا للناس، ويذهبَ غيرَ مأسوفٍ عليهِ من ذي بقية. أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ" نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ودعا المسلم ألاَّ يخامرَه شكٌ بنُصرةِ الله لهذا الدين، حتى وإن لم يرهُ بأمِّ عينه، وتحققَ لأجيالٍ بعده، فحسبهُ أن يكونَ جنديًا صادقًا في سبيلِ خدمةِ هذا الدين، وحسبهُ أن يموتَ يوم يموت، وهو يُحسنُ الظنَّ بربهِ، ويستشعرُ بمسؤوليتهِ تجاهَ دينه، قد حررَ عبوديتهُ لله. وأشار إلى أن النصر لا بُدَّ من اكتمال أسبابهِ، وزوالِ معوقاته، واللهُ يحكمُ ما يشاءُ ويفعلُ ما يريد، ووعدهُ حق، ونصرهُ قريب، وأمرهُ بين الكاف والنون، ولكن ثَمة أدواء يتلبسُ بها المسلمون وهم يستشرفون النصر، ونصرُ اللهِ عزيزٌ لا بُدَّ فيه من تمحيصِ الصفوف، ولا بُدَّ من تميزِ الخبيثَ من الطيب، لا بُدَّ من سقطٍ لأصحابِ المطامعِ والأهواء، ولا بُدَّ من تجريدٍ للصفوةِ المختارةِ التي يُحبُها الله، وتستحقُ نصره، لا بُدَّ من تمييزِ المجاهدين الصادقين من المتقولين المنتفعين. عباد الله: وليست المسؤوليةُ في هذا على الناس على حدٍ سواء، فكلٌّ بحسبه، وليست العبوديةُ المؤهلةُ للنصر ضربًا من الأماني، أو قدرًا محدودًا من العبادات، يظنُّ المرءُ فيها أنَّهُ بلغَ قمَّة الإيمان. وقال: المسؤوليةُ كبيرة، والعبوديةُ المرادةُ لله شاملة، واسمع إلى أحدِ علماءِ السلف وهو يشخِّصُ الحال، يقولُ ابن القيم، وهو يتحدثُ عن نوعي العبوديةِ العامةِ والخاصة: (ولله سبحانهُ على كلِّ أحدٍ عبوديةً بحسبِ مرتبته، سِوى العبوديةِ العامةِ التي سوى بين عبادهِ فيها: فعلى العالم من عبوديةِ نشرِ السنةِ، والعلم الذي بعثَ اللهُ به رسلهُ ما ليس على الجاهل، وعليه من عبوديةِ الصبرِ على ذلك). ما ليس على غيره، وعلى الحاكمِ من عبوديةِ إقامةِ الحقِّ وتنفيذهِ وإلزامه من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغنيِّ من عبوديةِ أداءِ الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادرِ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وأضاف: إن للإمام أحمد وغيره أثرًا، أنَّ اللهَ سُبحانهُ أوحى إلى ملكٍ من الملائكةِ أن اخسف بقريةِ كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلانٌ العابد، فقال: به فابدأ، فإنَّهُ لم يتمعَّر وجههُ في يومٍ قط. وذكر صاحبُ التمهيد: أنَّ اللهَ سُبحانهُ أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائهِ أن قُل لفلانٍ الزاهد: أمَّا زُهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأمَّا انقطاعُك إلىَّ فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما ليَ عليك؟ فقال: يا ربي وأي شيءٍ لك عليَ؟ قال هل واليتَ فيَّ وليًا، أو عاديت في عدوًا ؟ هكذا إخوة الإسلام، فَهِمَ السلفُ - رحمهم الله - حقيقةَ العبوديةِ لله، وكذلك جاءتِ النصوصُ الشرعية، والوصايا النبويَّة تُؤكدُ أمرَ القيامِ له بحقهِ عبوديةً عامة، يشتركُ الناسُ فيها، وعبوديةٍ خاصة كلٌّ بحسبه، تضمنُ قيام أمر الله، تُرسي دعائمَ الخيرِ في الأرض، وتوالي الخيِّرينَ، وتحبُ الناصحين، وتسهمُ في اقتلاع الشرِّ من جذروه، وتأخذُ على أيدي السفهاءِ وتأطرهم على الحقِّ أطرًا، وتكرهُ المبطلين، وتُعادي الكافرين، وتبغضُ المنافقين. وبهذه المجاهدة في الأرض ينساحُ الخيرُ، وينكمشُ الباطل، ويقتربُ النصر، ولكنَّ ذلك يحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرة، وإيمانٍ ويقين، وَمَنْ خَطبَ الْحَسْناءَ لمْ يُغْلِه الْمَهْرُ "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا"، "وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ". وصدقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).
مشاركة :