روايةُ (حي بن يقظان) إحدى كلاسيكيات الأدب العربي القديم الأكثر شهرة عالميًّا، ورائعة من روائعه، جمع فيها (ابن طُفَيْل) بين (أ) الفَلْسَفَة و(ب) الأدب و(ت) الدين و(ث) التّربية. (أولًا): أجواء الرّواية: تحكي القصَّة الخياليَّة المستَلْهَمة مِن قصة تحمِل الاسْمَ عينَهُ كتبَها (ابن سينا) في سجنِ قلعةِ (همدان) قصة (طفل) هو (ثمرة زواج سرِّي بين شقيقة ملكٍ من دون رضاه من قريبٍ لها يسمى (يقظان). وخوفًا من بطش الملك- الشّقيق، وضعَت وليدَها في تابوتٍ وألقته في اليمِّ. وعندما وصل إلى شاطئ جزيرة مهجورة [جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولَّد بها الإنسان من غير أم ولا أب وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص5]، عثرت عليه ظبيةٌ كانت تبحث عن وليدِها، فحملته إلى الجزيرة، واعتنت به، وأرضعته، وعلّمته لغتَها. وعندما كبر، بدأ يحاكي [يقلِّدُ] ما يسمعه من أصواتِ الطّيرِ والحيوان، وبدأ يتّخذ من أوراق الشّجر ملابسَ؛ [بعد أن كان ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالأوبار والأشعار وأنواع الرِّيش، وكان يرى ما لها من العَدْو وقوة البطش وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها مثل القرون والأنياب والحوافر والصّياصي والمخالب. ثم يرجع إلى نفسه فيرى ما به من العري وعدم السِّلاح وضعف العَدْوِ وقلة البطش عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثَّمرات وتستبد بها دونه وتغلبه عليها فلا يستطيع المدافعة عن نفسه ولا الفرار عن شيء منها. وكان يرى أترابه من أولاد الظِّباء قد نبتت لها قرون بعد أن لم تكن وصارت قوية بعد ضعفها في العَدْو، ولم يرَ لنفسه شيئًا من ذلك، فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص10] ثم ضعفَتِ الظَّبْيَة التي ربته، وأدركَها الموتُ، فسكنَت حركاتُها، فظَنَّ أنَّ المرضَ الذي أودى بها كانَ كامنًا في صدرِها، فهداه تفكيرُهُ إلى شقِّ صدرها بحجرٍ بحثًا عن سبب تعطّل حركتها، فلم يعرف [ملاحظة: نلاحظ دقة وصف التّشريح، ويعود ذلك إلى كونه طبيبًا، وقد وردت كلمة (تشريح) في ص 17]، [فانتقلت علاقته من الجسد إلى صاحب الجسدِ ومحركِهِ، ولم يبقَ له شوق إلا إليه. وفي خلال ذلك نَتُنَ ذلك الجسد، وفاحت منه روائحُ كريهة، فزادت نَفْرَتُه عنه وودَّ أن لا يراه. ثم إنه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتًا، ثم جعل الحيُّ يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتُّراب؛ فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إياه (العدالة، خاصة أن ابن طُفَيْل كانَ قاضيًا)! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه وحثا عليها] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص15]. كان (حي) يلاحظ، ويجرب، ويتأمل، نافذًا إلى كل المعارف من خلال فكر مستبصِر. وما إن يصل إلى سن الثّلاثين، حتى يحيط بالطّبيعة من حوله، يستغلها لغذائه ولكل حاجاته. بدءًا بتحريكِ يديه واستخدامهما وسَتر سوءَتِه، ومعرفته الصّيد والنّار [التي زادت محبته لها إذ تأتَّى له بها من وجوه الاغتذاء الطَّيب شيءٌ لم يأتِ له قبل ذلك] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص15]، واتّخاذ المخزن لحفظ ما يفضل من غذائه. والتفتَ إلى الفروقات ما بين النّبات والحيوان في الحركة وارتفاع الهواء واللّهيب إلى أعلى، وانحدار الماء إلى أسفل. ولاحظ أن كل ما في الطّبيعة خاضع لقانون الكون والفساد، وعرف أرفع حقائق الطّبيعة. وتأخذ معارف (حي) في التّطور السّريع المتقدم، فيدرس: المعادن، والنّبات، وأعضاء الحيوان، ووظائفها، ويصنفها إلى أجناس وأنواع. وتقوده دراسته إلى فكرة النّفس الحيوانية والنّفس النّباتية. وتتطور معارفه فتصبح فلسفة يؤمن بها إيمان المجرِّب. وتبدو له الأجسام صورًا تصدر عنها أفعال، فيمضي باحثًا عن عناصرها الأولية حتى يهتدي إلى اكتشاف [العناصِر الأربعة، أو الأُسْطُقُسّات: العناصر الأَربعة عند القدماء، وهي الماء والهواء والنَّار والتراب، والأُسْطُقُسّ: الأَصل البسيط يتكون منه المركَّب]. وفي ضوء تجربته، يقتنع (حي) بأن لكل موجود علّة فاعل، وأخذ يبحث عن هذه العلة فيما حوله. بحث عنها في الطّبيعة، فلم يتوصل إلى شيء؛ لأن جميع ما في الطّبيعة عرضة للتّحول والفساد؛ فحاول أن يبحث عنها في الأجرام السّماوية، وعن طريق تلك الأجرام الظّاهرة أخذ يتأمل السّماء نفسها، وهل هي ممتدة إلى ما لا نهاية. ثم لم يلبث أن تصورها كروية، واستنتج من خلال تجربته ضرورة وجود أفلاك خاصة بالكواكب. وطال به الأمد في ملكوت السّماوات والأرض؛ فهداه تفكيره إلى ان كل ما في الوجود لا بد له من خالق [ما زال يتتبع صفات الكمال كلها، فيراها له وصادرة عنه ويرى أنه أحق بها من كل ما يوصف بها دونه] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص20]، و[هذا الشُّيء العارف لا يستحيل ولا يلحقه الفساد ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يُدرك بشيء من الحواس، ولا يُتَخَيل ولا يُتَوَصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يُتوصَّل إليه به، فهو العارف والمعروف والمعرفة، وهو العالم والمعلوم والعلم، لا يتباين في شيء من ذلك؛ إذ التَّباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص36-37] ثم، عندما تعدّى الخمسين، قابل مصادفةً رجلينِ مؤمنينَ من جزيرة أهلها مؤمنون أحدهما يُدعى (أبسال)، والثَّاني (سلامان)، وكان الأول [أشد غوصًا على الباطن وأكثر عثورًا على المعاني الرُّوحانية وأطمع في التَّأويل، والثَّاني أكثر احتفاظًا بالظاهر وأشد بُعدًا عن التَّأويل وأوقف عن التَّصرف والتَّأمل. وكلاهما مُجِدٌّ في الأعمال الظاهرة ومحاسبة النَّفس ومجاهدة الهوى وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل على العزلة والانفراد وتدل على أن الفوز والنَّجاة فيهما، وأقوال أُخر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة، فالتزم (أبسال) فكرة العزلة، و(سلامان) فكرة ملازمة الجماعة]. [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص48]، فغادر (أبسال) إلى جزيرة (حي بن يقظان) لعزلته. ?????? ولما وقع بصر كل واحد منهما على الآخر صدفةً وقتَ كانَ (حي بن يقظان) خارجًا من مغارته، جرى (أبسال) خوفًا منه، وكان (حي) لم يرَ إنسانًا من قبلُ، فلحقَه لما كان في طباعِهِ من البحث عن حقائق الأشياء. ثم راقبَ (أبسال)، فوجده غارقًا في الصَّلاة والقراءة والدّعاء والبكاء والابتهال إلى اللهِ والتّذلُّلِ له، حتى شغله [شغلَ أبسال] ذلك عن كل شيء، فجعل (حي بن يقظان) يقترب منه قليلًا، و(أبسال) لا يشعر به، حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته، فسمع صوتًا حسَنًا وحروفًا منظمًا لم يعهد مثلها من أصناف الحيوان. ونظر إلى شكلِ هذا الحي الغريب وتخطيطه، فرآه على صورته، وتبين له أن الثِّياب التي عليه ليست جلدًا طبيعيًّا، وإنما هي لباس متَّخَذٌ مثل لباسه هو. ثم تعارفا، و[بدأ (أبسال)- لمحبته في علم التَّأويل- قد تعلم أكثر الألسن ومهر فيها، فعلمه الكلامَ والفرائض وأمورًا كثيرةً، فآمنَ بملّةِ (أبسال)- وهي الإسلام- وعاد به إلى جزيرته، فراقب النّاس عن قرب، وعلم ما بهم من خير وشر]. [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص50، بتصرف]، وخاصة أصحاب (سلامان) الذين نظروا إليه نظرة ريبة. فلما فهم (ابن يقظان) أحوال النّاس بعد أن عارضوا معارفه التي عرضها عليهم، سلَّمَ أن الشّريعة المنزلة للنّاس عن طريق الأنبياء، والتي تخاطبهم بالظّاهر من دون التأويل والتعمق في الباطن، هي الأنسب والأحكم لهم، وأن الله تعالى أعلمُ بعباده وفِطرتهم، فيأتي لهم بما يوافق طبائعهم وأفهامهم ليصلح شؤونهم ويقوّم أحوالهم. أما من يصل إلى مرتبة الكشف والمشاهدة والغوص في باطن الشّريعة وباطن التَّأويل، فهم قليل جدًّا؛ لذا لا ينبغي لأهل الكشف أن يحدّثوا النّاس بما لا يمكن لعقولهم إدراكه؛ حتى لا يفتنوهم عن دينهم أو يتهموهم بالزّندقة والخروج عن الشّرع. وعاد (حي بن يقظان) و(أبسال) إلى جزيرتهما بعد أن [انصرف إلى (سلامان) وأصحابه فاعتذر عما تكلَّم به معه وتبرأ إليهم منه وأعلمهم أنه قد رأى مثل رأيهم واهتدى بمثل هديهم وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من الْتزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة وقلة الخوض فيما لا يعنيهم والإيمان بالمتشابهات والتَّسليم لها والإعراض عن البدع والأهواء والاقتداء بالسَّلف الصالح والترك لمحدثات الأمور. وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشَّريعة والإقبال على الدُّنيا، وحذرهم منه غاية التَّحذير. وعلم هو وصاحبه (أَبْسال) أن هذه الطَّائفة المريدة القاصرة لا نجاة لها إلا بهذه الطَّريق، وأنها- إن رفعَتْ عنه إلى بقاع الاستبصار- اختلَّ ما هي عليه ولم يمكنها أن تلحق بدرجة السُّعداء، وتذبذبت، وانتكست وساءت عاقبتُها. وإن هي دامت على ما هي عليه حتى يوافيها اليقين، فازت بالأمن وكانت من أصحاب اليمين، فودَّعاهم وانفصلا عنهم وتلطَّفا في العود إلى جزيرتهما حتى يسَّر الله- عز وجل- عليهما العبور إليها. وطلب (حي بن يقظان) مقامه الكريم بالنَّحو الذي طلبه أولًا حتى عاد إليه واقتدى به (أَبْسال) حتى قرب منه أو كاد، وعبدا الله في تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص54، بتصرف] وبقيا يتعبدان في الجزيرة إلى أن ماتا. دراسة الرّواية: (أولًا): في الشّكل والمضمون هي– من حيث الحجم والشَّكل– رواية قصيرة؛ ومن حيث المضمون: رواية فلسفية– صوفية؛ إذ حملت من الفَلْسَفَة تلك الـ(لماذا) المقلقة، وحملت منها آفاقَها وقضاياها وتحدياتهها، وتحديدًا الفلسفة (الأرسطية) التي تقول إن “المعرفة تبدأ بدراسة أتفه الأشياء الواقعة تحت الحواس، ثم تمضي صعودًا لتصل إلى رتبة (التَّعليل) وصولًا إلى (الواحد الأبدي الخالق)”، وهي فلسفة (ابن سينا) كاتب الرِّواية الأصلي التي اعتنقها وطبقها من خلال فلسفة (المشَّائية) الأرسطية. وتتضمن الرَّواية معلومات علمية يدحضها الكاتب: “فهو خطأ يقوم البرهان على خلافه” [ص 5]، أو يعرضها بما يتوافق ومعلوماته ومعلومات مَن سبقه من أصحاب العلم، كما في هذه الفقرة التي يوافق فيها نظرية (ابن سينا) الذي يدعوه بلقبه (الشَّيخ): “تبرهن في العلوم الطَّبيعية أنه لا سبب لتكوُّن الحرارة إلا الحركة، أو ملاقاة الأجسام الحارة، والإضاءة. وتبيَّن فيها أيضًا أن الشَّمس بذاتها غير حارَّة ولا متكيفة بشيء من هذه الكيفيات المزاجية، وقد تبيَّن فيها أيضًا أن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتمَّ القبول هي الأجسام الصَّقيلة غير الشَّفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصَّقيلة. فأما الأجسام الشَّفافة التي لا شيء فيها من الكثافة، فلا تقبل الضَّوء بوجهٍ، وهذا وحده مما برهنه الشَّيخ أبو علي خاصة، ولم يذكرْه مَن تقدمه” [ص 5]، طبية: “الدِّماغ، القلب، الكبد، الشّرايين، التَّشريح”، فلكية: الحرارة، الإضاءة، الشّمس، ومعرفة خاصية الأجسام؛ فقد “علم أن السَّماء وما فيها من الكواكب أجسام، لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة” الطول، العرض، والعمق؛ لا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك عن هذه الصّفة فهو جسم” [ص23]. وأدرك بعد ذلك أن كل جسم متناه، ويلزم عن انتهائه أن “كل قوة في جسم فهي لا محالة متناهية. فإن وجدنا قوة تفعل فعلا لا نهاية له، فهي قوة ليست في جسم” [ص 29]؛ وصوفية: بما فيها المصطلحات الواردة: “الرِّياضة والمجاهدة (مجاهدة النَّفس)، العزلة، الذِّكر، الصَّمت، التَّأمل، الحب، الفناء، المشاهدة”. (ثانيًا): في أهداف الرِّواية: (أ) تدرك النَّفس قيمتها وتعي ذاتها من خلال “العزلة والانفراد، وتدل على أن الفوز والنَّجاة فيهما، وأقوال أُخر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة، فالتزم (أبسال) فكرة العزلة، و(سلامان) فكرة ملازمة الجماعة”. [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص48] (ب) الإيمان بالخالق العارف: “الذي لا يستحيل ولا يلحقه الفساد ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يُدرك بشيء من الحواس، ولا يُتَخَيل ولا يُتَوَصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يُتوصَّل إليه به، فهو العارف والمعروف والمعرفة، وهو العالم والمعلوم والعلم، لا يتباين في شيء من ذلك؛ إذ التَّباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص36-37]. (ت) سلَّمَ (ابن يقظان)- بعد فهمِ أحوال النّاس بعد أن عارضوا معارفَه التي عرضها عليهم أن الشّريعة المنزلة للنّاس عن طريق الأنبياء، والتي تخاطبهم بالظّاهر من دون التَّأويل والتَّعمق في الباطن، هي الأنسب والأحكم لهم، وأن الله تعالى أعلمُ بعباده وفِطرتهم، فيأتي لهم بما يوافق طبائعهم وأفهامهم ليصلح شؤونهم ويقوّم أحوالهم. أما مَن يصل إلى مرتبة الكشف والمشاهدة والغوص في باطن الشّريعة وباطن التَّأويل، فهم قليل جدًّا؛ لذا لا ينبغي لأهل الكشف أن يحدّثوا النّاس بما لا يمكن لعقولهم إدراكه؛ حتى لا يفتنوهم عن دينهم أو يتهموهم بالزّندقة والخروج عن الشّرع. [بتصرف: ص54] (ثالثًا): في قيَم الرّوايةِ التَّربوية: القيم الإيجابية المطروحة: تقوم القيم الإيجابية المطروحة في (حي بن يقظان) على العلم والفلسفة والإيمان من بداية الرّواية حتى نهايتها وكذلك هناك قيم مهمة، مثل قيم رعاية الأم ابنها وردّه جميلها عندما تصبح عجوزًا ضعيفة وغيرها من القيم… كما وردتْ قيم سلبيَّةٌ فيها تتعلق بفقدان العدالة إذ يقتل الغراب أخاه [ص15]، وقيم سلبيةٌ أخرى تتعلق بعلاقة الجمهور بالفكر ووصولهم إلى درجة يشكلون فيها خطرًا على حياة المفكر الذي يخرج عن طرائق تفكيرهم التقليدية. ومن القيم: الأمومة (الابن البديل): “فوقع صوتُه في أذن ظبية فُقد طَلَاها [الطَّلا (ط ل و): ولدُ الظَّبْيَة ساعةَ تضعُهُ، (أو) الولد من ذوات الظِّلْفِ والخُفِّ، (أو) الصَّغير من كلِّ شيء، جمعه: طَلْوان، أَطلاء]، خرج من كِناسِه [الكِناس (ك ن س): بيت الظّبيِ، وجمعه: أكنِسَة وكُنُس] فحمله العُقاب [العُقابُ (ع ق ب): طائر من كواسر الطّير، له منقار قصير أعقَفُ، قويُّ المخالبِ، حادُّ البصرِ، وفي المثَلِ: “أبصرُ من عًقابٍ” (للذّكَر والأنثى)، وجمعُه: عِقْبانُ وأَعْقُب، وجمعُ الجمعِ: عَقابين]. فلما سمعت الصَّوتَ، ظنَّته ولدَها، فتتبَّعت الصَّوت وهي تتخيل طَلاها حتى وصلت إلى التَّابوت [التَّابوتُ: صُندوق وضع فيه الميت ليُدفَنَ، أو صُندوق من خشب يوضع فيه المَتاع أو غيره، وجمعه: توابيت]، ففحصت عنه بأظلافها [الظِّلْفُ: ظُفُرُ كل ما اجترَّ، وجمعُه: ظُلوفٌ وأَظلافٌ]على وهو ينوء [ناءَ (ن و أ)، ينوءُ: نهضَ بجُهْدٍ ومشقَّةٍ، (أو) سقطَ (من الأضداد)، ومصدره: نَوْءًا وتَنْواءً]، ويئِن من داخله حتى طار عن التَّابوت لوحٌ من أعلاهُ، فحنَّت [حَنَّتْ: مدَّتْ عُنُقَها شوقًا إلى ولدِها، ومصدره: حنينًا] الظَّبْيَة وَحَنَتْ عليه ورئِمَتْ بِهِ [رئمَ (ر أ م)، يرأَمُ: الشَّيءَ: أحبَّهُ واَلِفَهُ، أنِسَ بهِ، والمصدر: رأْمًا]، وألقَمَتْه [ألقَمَ (ل ق م) فلانًا الطَّعامَ: أطعمَه إياهُ بسرعةٍ، و(فلانًا حَجَرًا): أسكتَهُ عند المُخاصَمَتةِ (مجاز)، والمصدر: إلقامًا] حَلَمَتَها وأرْوَته لبنًا سائغًا [السَّائغُ (س و غ) من الشَّرابِ: العَذْبُ]، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى” [ص 7]. (2) الرّعاية والتّربية: “وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى” [ص7]، و“إن الظَّبْيَة التي تكفَّلت به وافقت خصبًا ومرعًى أثيثًا، فكثر لحمها ودر لبنها، حتى قامت بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام. وكانت معه لا تبعد عنه إلا لضرورة الرعي. وأَلِف الطفل تلك الظَّبْيَة حتى كان بحيث إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطارت إليه. ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية، فتربَّى الطفل ونما واغتذى بلبن تلك الظَّبْيَة إلى أن تم له حولان، وتدرَّج في المشي وأثغر فكان يتبع تلك الظَّبْيَة وكانت هي ترفق به وترحمه وتحمله إلى مواضع فيها شجر مثمر، فكانت تطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة وما كان منها صلب القشر كسرته له بطواحنها، ومتى عاد إلى اللبن أروته، ومتى ظمئ إلى الماء أوردته، ومتى ضحا ظللته ومتى خصر أدفأته، وإذا جنَّ الليل صرفته إلى مكانه الأول وجللته بنفسها وبريش كان هناك مما مُلئ به التابوت أولًا في وقت وضع الطفل فيه”. [ص10] (3) البنوَّة: (واجبات الأبناء تجاه الآباء+ رد الجميل+ الوعي بالواجب): فصار لا يدنو إليه شيء منها سوى الظَّبْيَة التي كانت أرضعته وربَّته، فإنها لم تفارقه ولا فارقها إلى أن أسنَّت وضعفت؛ فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويجتني لها الثَّمرات الحلوة ويطعمها. وما زال الهُزَل والضّعف يستولي عليها ويتوالى إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة وتعطلت جميع أفعالها. [ص11] (4) الحزن الشَّديد على موت الحبيب (الأم)، فالقبول بالموت: وهي قيمة إيجابية تدل على الوفاء. والقبول بالموت بعد أن فقد الأمل بإعادة رد الحياة إلى أمه؛ إذ “انتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه ولم يبقَ له شوق إلا إليه”. [ص15]، وقد كرّسَ قبوله بالموت عندما دفنَها أسوة بما فعل الغرابُ: “ثم إنه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتًا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتُّراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه وحثا عليها وبقي يتفكر في ذلك الشيء المصرف للجسد لا يدري ما هو!” [ص15] (5) الحنين إلى الأم: “غير أنه كان ينظر إلى أشخاص الظباء كلها فيراها على شكل أمه وعلى صورتها فكان يغلب على ظنه أن كل واحد منها إنما يحركه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي كان يحرك أمه ويصرفها فكان يألف الظباء ويحن إليها لمكان ذلك الشبه”. [ص15] (6) العدالة: وابن طفيل القاضي، لم يتغاضَ عن العدالة؛ ففي المونولوج، يخاطب نفسه، رغم إعجابه بفعل الغراب حين وارى أخاه، إذا رفض جريمة القتل: ” فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إياه!” [ص 15]. (7) في العناية بالنّباتِ والحيوان والطّبيعة: ألزم (حي بن يقظان) نفسه “ألا يرى ذا حاجة أو عاهة أو مضرة أو ذا عائق من الحيوان أو النَّبات وهو يقدر على إزالتها عنه إلا ويزيلها. فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشَّمس حاجبٌ، أو تعلَّق به نبات آخر يؤذيه أو عطش يكاد يفسده، أزال عنه ذلك الحاجب إن كان مما يزال، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي وتعهده بالسّقي ما أمكنه. ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سَبُعٌ أو نشب به ناشب أو تعلق به شوك أو سقط في عينيه أو أذنيه شيء يؤذيه، أو مسَّه ظمأ أو جوعٌ، تكفَّل بإزالة ذلك كلِّه عنه جهده وأطعمه وسقاه. ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سَقْي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق من حجر سقط فيه أو جُرف انهار عليه أزال ذلك كله عنه”. [ابن طفيل: حي بن يقظان، ص: 40] (8) الرِّياضة العادية والرِّياضة الرّوحية: والتزم (حي بن يقظان) “ضروب الحركة على الاستدارة- متشبهًا بالأجسام السّماوية؛ فتارةً كان يطوف بالجزيرة ويدور على ساحلها ويسيح بأكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته أو ببعض الكدى أدوارًا معدودة: إما مشيًا وإما هرولة، وتارة يدور على نفسه حتى يغشى عليه. [ص41]، و”كان يلازم الفكرة في ذلك الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات، ويغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته ألا يفكر في شيء سواه ولا يشرك به أحدًا ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها”. [ص41]. (9) في الطَّعام: شروط أكل الفاكهة واللُّحوم: “قرر (حي بن يقظان) أن يختار لحوم الفواكه التي تناهت في الطِّيب وصلح ما فيها من البزر لتوليد المثل، على شرط التَّحفظ بذلك البزر بأن لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنَّبات مثل الصّفاة والسّبخة ونحوهما. فإن تعذر عليه وجود مثل هذه الثَّمرات ذات اللَّحم الغاذي كالتّفاح والكمثرى والإجَّاص ونحوها، كان له عند ذلك أن يأكل إما من الثَّمرات التي لا يغذو منها إلا نفس البزر كالجوز والقسطل، وإما من البقول التي لم تصل بعدُ حدَّ كمالها. والشَّرط عليه في هذين أن يقصد أكثرها وجودًا وأقواها توليدًا، وألا يستأصل أصولها ولا يُفني بزرها. فإن عدم الفاكهة، فله أن يأخذ من الحيوان أو من بيضِهِ. والشَّرط عليه في الحيوان: أن يأخذ من أكثرِه وُجودًا، ولا يستأصل منه نوعًا بأسرِهِ. هذا ما رآه في جنس ما يتغذى به. وأما المقدار، فرأى أن يكون بحسب ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها”. [ص39] القيم الفلسفية الإيجابية: اكتشاف الذَّات؛ وذلك بعد مقارنة نفسه بحيوانات الغابة من نواحي الأوبار التي تكسوها، وقوة البطش، والعَدْو، وفقد نظر حي إلى الحيوانات في الغابة والأوبار التي تكسوها، وقوة البطش، وسرعة العدو، وإمكانية التآلف مع بعضها وعدم التآلف مع بعضها الآخر. واكتشاف أنه يتميز عنها كلها بيديه… اكتساب المعرفة؛ يذهب (ابن طفيل) إلى أن اكتساب المعرفة يتم عبر طريقين: طريق العقل، وطريق الارتياض. توافق الفلسفة مع الدِّين؛ فالحقائق الدينية لا يمكن أن تتخلف عن الحقائق العقلية. في أن العامة محتاجون إلى وحي من الله، فهم مغرقون بالمحسوسات. أهمية العزلة في صياغة المعرفة الإنسانية. أثر المجموع في تشكيل المعرفة الإنسانية، وصعوبة التَّشكيك وإعادة النَّظر في الآراء السَّائدة. العقل والنَّقل وحيان من الله، لا يمكن تعارضهما. لكل مقام مقال، ومقام العوام في الخطاب هو سهولة الألفاظ، وبساطة الفكر، وتحديثهم على قدر عقولهم. صعوبة سيادة الفكر الفلسفي في المجتمع المتدين. أهمية الوحي في تنظيم الجماعات وإرشادها. إمكانية إثبات الوحي بالعقل. (رابعًا): في حبكة الرّواية: الحَبْكَةُ: مجموعة أحداث (أفعال) مترابطة ينظّمها المؤلف بوعي انتقائي، فترتبط ارتباطًا وثيقاً بالجانب الدّرامي في فنون السَّرد (الملحمة، الرّواية، القصة، الحِكَايَة…) وفي فنون المسرح (المأساة، الملهاة، المشجاة، الهزلية، الأوبرا، الأوبريت..). والحَبْكَةُ نوعان: صورة البناء: وهي القِصَّة ذات الحَبْكَةُ المفككة (loose )، والصّورة العضوية: وهي القِصَّة ذات الحَبْكَةُ العضوية المتماسكة (organic)، وتقوم على حوادث مترابطة، يرسم القاص فيها تصميمًا هيكليًّا واضحًا لقصته، وينظم الحوادث والشَّخْصيّات بحيث يؤدي كل منها دوره في مكانه المناسب، لتؤدي كل الخطوط إلى النِّهاية المرسومة. وأبسط صورة لبناء الرّواية هو الَّذي يتكون من ثلاث مراحل معروفة حققتها الرَّواية كلها هي: (أ) المقدمة [هي المدخل الَّذي يمهّد للفكرة ويعرّف بالحقائق اللازمة لفهم ما سيأتي فيما بعد، وهي تتضمن عناصر أساسية مثل الزَّمان والمكان والموضوع والمشكلة التي يجب حلها، وشخصية أو اثنتين]. وقد بدأ ابن طفيل روايته راويًا رأيين اثنين، عارضًا إياهما فيما يتعلق بتكوين بطل روايته وأحدهما فيهمن الخيال ما فيه، محيلًا الروايتين حينًا إلى “السَّلف الصَّالح” [ص5]، والآخر الذي أحاله إلى “الذين زعموا أنه تولد من الأرض…] [ص 7]. (ب) العقدة [تطلق العقدة أو (ذروة الحَبْكَةُ) أو (أوج الحَبْكَةُ) على “أقصى درجات التأزم في عمل قصصي ما]. وقد كانت بداية العقدة في الرِّواية هي اللَّحظة الفارقة التي انبثق منها وعيه: عندما تموت أمه الظَّبْيَة ويبدأ الاكتشاف: الموت، التّشريح، آلات الصيد…. وصولًا إلى الإيمان. ولكن هذا لا يعني أنه لم يسبق قبل موتها أن لاحظَ وجرّب واكتشف واستنتج أمورًا كثيرة قد يكون منها الطَّيران، وقد لا يكون، فثمة إشارة إلى أنه لبس لباس الطير (ذنَب، جناحان) حتى هابته. (ت) الحلّ: يشير إلى النَّتيجة الختامية للعمل الأدبي. ويجب أن يحقق الشُّروط التالية: أن يكون: منطقيًّا، مقنعًا، غير متكلف. على أن نهاية القِصَّة أو إقفالها أو إغلاقها ليس دائمًا بمثابة إغلاق للعمل؛ ففي الأعمال الحداثية توجد نهايات مفتوحة open- ended، ولكنها أقلّ من النِّهاياتِ التَّقليدية؛ لأنَّ القارئ يحب الوصولَ عادةً إلى نتيجة لا ترك الأمور غيرَ منتهية. وقد كانت الخاتمة في الرواية: العودة إلى الجزيرة مع أبسال [54]. (خامسًا): السَّرد في الرّواية: السَّرد هو: طريقة الكتابة، وهناك أكثر من طريقة استخدمها الكاتب في سرد روايته: (أ) السَّرد المباشر إذ كان الكاتب خارج أحداث القصَّة، يقوم بعمل المؤرِّخِ الذي يجلس إلى مكتبه ليؤرخ التَّاريخ الظاهر لمجموعة من الشَّخصيات، مستخدمًا ضمائر الغائب. وهو الأكثر تداولًا بين السُّرّاد والأيسر استقبالًا، محيلًا أخبار ولادة (حي بن يقظان) على “السَّلف الصَّالح”، متحدثًا عن البطل الرّئيس وبقية الأبطال، مكتفيًا بأن يكون مجرد راوٍ لها، فروى نظريتين عن ولادة البطل، إحداهما: أنه ولد في جزيرةٍ “من غير أم ولا أب وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق” [ص 5]، والأخرى: “كان بإزاء تلك الجزيرة جزيرة عظيمة متسعة الأكناف كثيرة الفوائد عامرة بالنَّاس، يملكها رجل منهم شديد الأَنَفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر، فعضلها ومنعها الأزواج؛ إذ لم يجد لها كفؤًا…” [ص 6]، ويظل إلى آخر الرَّواية معتمدًا هذا السّرد، وإن زيَّنَه بالمونولوج والاقتباس من غير استخدام الحوار المباشر. (ث) المونولوج: هو حديث النّفس للنّفس، ويعني أن يتحدث أحد شخصيات القصَّة لنفسه. والمونولوج موجودٌ عادةً في معظم أنواع السَّرد. وقد استخدمه الكاتب في خلال سرده ليطرح تساؤلات تتطلب أجوبة تقوده إلى المعرفة، فها هو ذا- أثناء التّشريح- قد جرّدَ القلب فرآه مصمتًا من كل جهة، فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة فلم يرَ فيه شيئًا! فشدَّ عليه يده فتبيَّن له أن فيه تجويفًا فقال: “لعل مطلوبي الأقصى إنما هو في داخل هذا العضو وأنا حتى الآن لم أصل إليه“. [ص13]. وها هوذا يخاطب نفسه وقد اكتشف معرفة ملموسة كشفها له غرابٌ: و”قال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي!” (ص 15). ويتساءل في مكان آخر سؤالًا أكثر عمقًا من السؤالين المحسوسين السابقين: “إذا كان حادثًا، فلا بد له من محدِث، وهذا المحدِث الذي أحدثَه لمَ أحدثه الآن ولم يحدثْه من قبل ذلك؟ ألطارئٍ طرأ عليه- ولا شيء هناك غيره- أم لتغيُّر حدث في ذاته؟ فإن كان، فما الذي أحدث ذلك التَّغيُّر؟ [مونولوج، ص: 28]. وهكذا نجد أنه المونولوج يتيح للقارئ قربًا أكبر من شخصية البطل، ومعرفة بما يدور في خلده. (ت): الاقتباس: مَصْدَر اقْتَبَسَ، وهو- إلى أَخْذِ شُعْلَةِ نارٍ من مُعْظَمِ النَّارِ- تَعديلُ أَثر أَدبيٍّ وبخاصّةٍ الرّوايات المَوْضوعة أَصْلًا للقراءةِ لتُصبْح صالِحةً للمَسْرحِ أَو للسِّينما، (أو) تحويلُ فِكْرةٍ أَدبيّةٍ إلى أَثرٍ موسيقيٍّ، (أو) نَقْلُ أَثرٍ أَجنبيٍّ إلى لغةٍ أُخْرى بعد إدْخالِ تَعْديلاتٍ على النَّصِّ الأَصْليِّ، (أو) تَحْديث أَثَرٍ قديمٍ، (أو) تَضْمينُ الكَلَام- نَثْرًا كان أَوْ نَظْمًا- شيئًا من القُرآنِ أو الحديثِ أو مِنْ مُصْطَلَح العلومِ على وَجْهِ غير مَشْعورٍ به. ويفيد الاقتباسُ في (السَّرد) في دعم الأفكار التي يوردها الكاتب، وهو على ثلاثة أنواع: (أ) الاقتباس المباشر: وهو النَّقل بشكلٍ حرفيٍّ من المصدر، عن طريق استخدام علامتي الاقتباس مع الإشارة إلى صاحب النَّص الأصلي، بوضع رقمٍ بجانب النَّص بعد علامة الاقتباس الثَّانية، وكتابة اسم المصدر أسفل الصَّفحة أو في صفحة معينة خاصة بالمقتبسات.[نلاحظ اقتباس ابن طفيل من الأحاديث النَّبوية الشَّريفة [ص8]، وآيات قرآنية من القرآن الكريم [31+ 44+54]. (ب) الاقتباس غير المباشر: وهو الاقتباس الذي لا يوجد فيه علامات الاقتباس، إذ يكفي أن تقول كما فعل (ابن طفيل) في بداية روايته: “ذكر سلفنا الصَّالح -رضي الله عنهم- أن…” [ص5]، أو كما فعل حين اقتبسَ نظرية ولادة (حي بن يقظان) الثَّانية: “ومنهم من أنكر ذلك وروى من أمره خبرًا نقصُّه عليك، فقال: إنه كان بإزاء تلك الجزيرة جزيرة عظيمة متسعة الأكناف كثيرة الفوائد عامرة بالنَّاس” [ص6]. وكذلك قوله:”تبرهن في العلوم الطَّبيعية أنه لا سبب لتكوُّن الحرارة إلا الحركة، أو ملاقاة الأجسام الحارة، والإضاءة. وتبيَّن فيها أيضًا أن الشَّمس بذاتها غير حارَّة ولا متكيفة بشيء من هذه الكيفيات المزاجية، وقد تبيَّن فيها أيضًا أن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتمَّ القبول هي الأجسام الصَّقيلة غير الشَّفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصَّقيلة. فأما الأجسام الشَّفافة التي لا شيء فيها من الكثافة، فلا تقبل الضَّوء بوجهٍ، وهذا وحده مما برهنه الشَّيخ أبو علي خاصة، ولم يذكرْه مَن تقدمه” [ص5]، واقتباسه من قصة رمي الطفل في “اليم” من قصص القرآن، من (أم موسى) [ص7]، وكذلك اقتباسه قضية (العصا) التي تذكرنا بعصا موسى في القرآن الكريم، وإن لم تكن لعصا (حي بن يقظان) قدراتِ عصا موسى التي اعتبرت معجزة [ص11]. ومن إيجابيات هذا النَّوع من أنواع الاقتباس أنَّه يساعد على الاستمرارية في القراءة. (ث) الحوار: هو حديث بين شخصين أو أكثر، وله شروطه. ولكن، بما أن لا حوار في الرِّواية، بل وصف للحوار، سواء بينه البطل وأمه، وبينه وبين (أبسال) أو بينه وبين المجموعات التي أراد أن ينقل إليها تجاربه الإيمانية، فلا نستطيع أن نطبق شروط الحوار هنا من حيث الرّشاقة، أو كونه وظيفي وغيرها. وقد اقتصر الحوار على الحوار بينه وبين نفسه- المونولوج- وقد أشرنا إليه. (سادسًا): أسلوب الرِّواية ومفرداتها: الأسلوب في الرِّواية: سهل، بسيط، معتدل، جزل في آن، منساب اللّغة، قريب من القارئ، حتى يتميز (ابن طفيل) عن بقية الفلاسفة في تمكنه من إيصال أفكاره الفلسفية في قالب لغوي يفهمه البسطاء من غير تقعر في الألفاظ، وقد “أخرج الفلسفة بأحسن ثوب، أو هو أفضل كاتب فلسفي”[شمس الدين، عبد الأمير: الفكر التَّربوي عند ابن طفيل. بيروت، الشركة العالمية للكتاب، ط1، ص 22]. أما مفرداته؛ فعربية، فصيحة، مفهومة، مألوفة، سهلة، تدل على موضوع الرِّواية، والسبب في السهولة والاعتدال أن هدفه من الأسلوب و(الجمل والمفرادات) هو إيصال الأفكار المكثفة (علميًّا، إيمانيًّا، فلسفيًّا…) أكثر من الاستعراض اللغوي واستخدام المجاز أو التّقعر اللغوي؛ نحو: “فوقع صوتُه في أذن ظبية فُقد طَلَاها [الطَّلا (ط ل و): ولدُ الظَّبْيَة ساعةَ تضعُهُ، (أو) الولد من ذوات الظِّلْفِ والخُفِّ، (أو) الصَّغير من كلِّ شيء، جمعه: طَلْوان، أَطلاء]، خرج من كِناسِه [الكِناس (ك ن س): بيت الظّبيِ، وجمعه: أكنِسَة وكُنُس] فحمله العُقاب [العُقابُ (ع ق ب): طائر من كواسر الطّير، له منقار قصير أعقَفُ، قويُّ المخالبِ، حادُّ البصرِ، وفي المثَلِ: “أبصرُ من عًقابٍ” (للذّكَر والأنثى)، وجمعُه: عِقْبانُ وأَعْقُب، وجمعُ الجمعِ: عَقابين]. فلما سمعت الصَّوتَ، ظنَّته ولدَها، فتتبَّعت الصَّوت وهي تتخيل طَلاها حتى وصلت إلى التَّابوت [التَّابوتُ: صُندوق وضع فيه الميت ليُدفَنَ، أو صُندوق من خشب يوضع فيه المَتاع أو غيره، وجمعه: توابيت]، ففحصت عنه بأظلافها [الظِّلْفُ: ظُفُرُ كل ما اجترَّ، وجمعُه: ظُلوفٌ وأَظلافٌ]على وهو ينوء [ناءَ (ن و أ)، ينوءُ: نهضَ بجُهْدٍ ومشقَّةٍ، (أو) سقطَ (من الأضداد)، ومصدره: نَوْءًا وتَنْواءً]، ويئِن من داخله حتى طار عن التَّابوت لوحٌ من أعلاهُ، فحنَّت [حَنَّتْ: مدَّتْ عُنُقَها شوقًا إلى ولدِها، ومصدره: حنينًا] الظَّبْيَة وَحَنَتْ عليه ورئِمَتْ بِهِ [رئمَ (ر أ م)، يرأَمُ: الشَّيءَ: أحبَّهُ واَلِفَهُ، أنِسَ بهِ، والمصدر: رأْمًا]، وألقَمَتْه [ألقَمَ (ل ق م) فلانًا الطَّعامَ: أطعمَه إياهُ بسرعةٍ، و(فلانًا حَجَرًا): أسكتَهُ عند المُخاصَمَتةِ (مجاز)، والمصدر: إلقامًا] حَلَمَتَها وأرْوَته لبنًا سائغًا [السَّائغُ (س و غ) من الشَّرابِ: العَذْبُ]، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى” (ص 7). أما المفردات، فسهلة، متخصصة، علمية، واضحة، تدل على المحتوى الوارد، من علوم طبيعية: “الحرارة، الحركة، الأجسام الصَّقيلة وغير الصّقيلة…” [ص5]، أو طبية: “الدِّماغ، القلب، الكبد، الشّرايين، التَّشريح…”، أو فلكية: “السَّماء، الكواكب، الأجسام…” [ص23، 29]، أو صوفية: بما فيها المصطلحات الواردة: “الرِّياضة والمجاهدة (مجاهدة النَّفس)، العزلة، الذِّكر، الصَّمت، التَّأمل، الحب، الفناء، المشاهدة”، وفلسفية: “المقارنات، التَّساؤلات، الدِّين، العقل، الحقائق، الفكر…”. (سابعًا): في الوصفِ (الوَصْفُ والصِّفَةُ): مصْدَرُ وَصَفَ الشّيءَ، يَصِفُه: نَعَتَه بما فيه، (أو) حَلَّاه، وهو وَصفُكَ الشّيءَ بحِلْيتِه ونَعْتِه، و(في الشِّعرِ): بابٌ من أبوابِ الشِّعرِ يقومُ على تمثيلِ الطّبيعةِ ونعتِها بِحَيِّها وجامدِها، وعلى تمثيلِ الإنسانِ ونعتِه بشكلِه وعواطفِه وتصرُّفاتِه، وعلى تمثيلِ العمرانِ ونعتِه بصروحِه وحدائقِه وآثارِه. ونوعا الوصفِ: (أ) وصف موظف لذاته: يعني أن النَّص أو القصَّة يعتمدان بشكل رئيس على الوصف. [وصف عملية التَّشريح، فقد توقف الحدث طويلًا وهو يصف عملية التشريح]. (ب) وصف موظف لغير ذاته: يعني أن الوصف يمرّ داخل القصَّة ويضيء فيها بعض الجوانب ويجمّلها، شرطَ ألا يطول فيعيقَ السَّردَ [انظر مثلًا وصف أفعال الأم أثناء تربية ابنها، ثم أفعال الابن عندما أسنَّت (الأمومة والبنوّة وإدراك الواجب) [ص10]، وهنا وصف من غير أن يعيق السَّرد، بل سرَّع الحدثَ. وعند (ابن طفيل) نلاحظ نوعًا مهمًّا من الوصف، هو الوصف المقارَن: “بعد أن كان ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالأوبار والأشعار وأنواع الرِّيش، وكان يرى ما لها من العَدْو وقوة البطش وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها مثل القرون والأنياب والحوافر والصّياصي والمخالب. ثم يرجع إلى نفسه فيرى ما به من العري وعدم السِّلاح وضعف العَدْوِ وقلة البطش عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثَّمرات وتستبد بها دونه وتغلبه عليها فلا يستطيع المدافعة عن نفسه ولا الفرار عن شيء منها. وكان يرى أترابه من أولاد الظِّباء قد نبتت لها قرون بعد أن لم تكن وصارت قوية بعد ضعفها في العَدْو، ولم يرَ لنفسه شيئًا من ذلك، فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص10] (ثامنًا): زَمَكَان الرّواية يعني: الزَّمان + المكان. و(الزّمان): اسمٌ لقليلِ الوَقتِ وكثيرِه، (أو) العَصْرُ، ويقعُ على الفَصْل من فصول السَّنةِ وعلى مُدّة ولايةِ الرَّجُلِ وما أشبهَه، ويقعُ على جميع الدَّهرِ وبعضِه، والجمعُ: أَزْمُنٌ وأَزْمانٌ وأَزْمِنةٌ. وقد يكون (مباشَرًا): (صباح، مساء، ظهرًا، السَّاعة كذا، سنة كذا، شهر كذا…) أو (غير مباشر): (عند صياح الدِّيك، سنة اندلاع الحرب الأهلية، في الزّمان القديم القديم، في الزَّمان الموغل في القِدَم). وفي رواية (حي بن يقظان): أحال (ابن طفيل) زمان الرّواية إلى ما حدثه به السّلف الصَّالح، أي إلى زمان غير محدد، أو إلى (الزمان غير المباشر)، وهذا ما يعطي الحكاية عادة– خاصة إذا كان فيها شيء من الخيال– ألقًا بسبب الغموض الذي يلفها. على أن السّردَ التزم– فيما بعد المقدمة– (زمنُ القِصَّة التّقليديّ)، أي: الزّمنُ الطّبيعيُّ الّذي يكونُ على التّصوُّرِ التّالي: ماضٍ، ثمّ حاضر، ثمّ مستقبل، من دون انزياحات زمنية، حتى إنه سار مع نمو الطفل سيرًا تقليديًّا، شرح فيه عمليه نموه الجسدي وعلاقته بنموه العقلي، وعلاقة زمن مرورهما على تدرج المعرفة من الحسية البسيطة إلى معرفة الذات ومعرفة إله الكون. وقبل التّعرف إلى مكان الرّواية؛ نتذكر قول (جورج بلان): “حيث لا توجَد أحداث، لا توجد أمكنة”. والمكان: المَوْضِعُ، (أو) المَنْزِلَةُ، و(هندسيًّا): هو وَسَطٌ ذو أبعادٍ ثلاثةٍ هي: الطُّول والعَرْضُ والارتفاعُ، والجمعُ: أَمْكِنةٌ، وجمع الجمع: أَماكِن. والمكانُ قد يكونُ مباشرًا أو غيرَ مباشر وفي رواية (حي بن يقظان): أحال (ابن طفيل) مكان الرِّواية (الأول) جغرافيًّا إلى مكان غرائبي أسطوري أوهم من خلال وصفه القارئَ أنه حقيقي من خلال تأثيثه بمكونات طبيعية لتأكيد أصله الجغرافي، يقول: “ذكر سلفنا الصَّالح…”. والمكان الثاني في الرواية هو (التابوت) الذي حمى الطفل وقتَ ألقته أمه في “اليم” كما فعلت أم موسى في قصته الواردة في القرآن الكريم، أما المكان الثالث، فهي: المراعي الخصبة حيث نشأ وترعرع. أما المكان الرابع، فهو (بيت حي بن يقظان)، أو ملاذه، إذ “اتخذ مخزنًا وبيتا لفضلة غذائه، وحصن عليه بباب من القصب المربوط بعضه إلى بعض؛ لئلا يصل إليه شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شؤونه” [ص 17]. وهذا البيت ساهم في التحولات الداخلية التي طرأت على شخصيته والتي جعلت (الكاتب) يطرح أفكاره الفلسفية في عالم متخَيَّل، أسطوري، مختبئًا من الرّقابة الإيديولجية خلف السَّرد الرِّوائي. أما المكان (الخامس)، فيصفه وصفًا واقعيًّا للفئة التي تؤمن بولادة البطل ولادة طبيعية عن طريق الزواج، فيصف [ص6-7]، وهو أيضًا جزيرة ولكن وردت مرة واحدة، ورودًا عابرًا، ولم يذكر عنها شيئًا فيما بعد. أما (المكان السادس): فهو المكان الذي أتاح لبطل الرواية الاتصال بالنّاس والإلمام باحوالهم، بل محاولة إصلاحهم، هي أيضًا جزيرة صديقه (أبسال). أما القيمة الرمزية لهذا المكان، فتتمثل في إقامة علاقة توفيقية بين العقل والنقل، فكانت “المختَبَر” الذي أعاده طوعًا مع (أبسال) إلى العزلة حيث اليقين، تاركًا الناس على ما يؤمنون به عن طريق التلقين، مبارِكًا إيمانَهم، مكتشفًا أن الإيمان العقلي ليس متاحًا للعوام، بل للنُّخبة. أما إن أردت التَّحدث عن تأثير (الزمكان) على اكتساب بطل الرواية صفاته المدنية، فنقول إن هذا الفضاء لامدني ولاسياسي، ما يعني أن البطل: لم يعاشر أحدًا ولم يخالط أهل ملة، ولم يأنس بمسموع، ولم يتأدب باستصلاح، ولم يُهَذب بتعليم أستاذ أو مرشد. إننا هنا أمام حالة يبدو أنها سابقة حتى على “حالة الطَّبيعة” ما قبل التَّعاقدية التي وصفها فلاسفة العقد الاجتماعي، من هوبز حتى جان جاك روسو، ما يشير إلى أن (ابن طفيل) قد حرص تمامًا على أن يشدد على أن الإنسان انطلاقًا من موارده الطَّبيعية الذَّاتية يستطيع اكتساب الصِّفات المدنية، فيتحول من كائن طبيعي إلى كائن إنساني، من دون الحاجة إلى دولة ولا شريعة ولا قانون ولا تاريخ! (تاسعًا): في خيال الرّواية الخيال: هو القدرة التي يستطيع العقل بها أن يشكل صورًا للأشياء أو الأشخاص أو يشاهد الوجود من خلال حفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة، شرط أن يعطى الحرية التي تشكل عماده والتي بواسطتها يحلِّق في الزَّمان والمكان للوصول إلى حقائق لا يمكن الوصول إليها عن طريق الحواس المجردة؛ فيساعد على فهم وقائع التَّاريخ والفنون والآداب والعلوم واكتساب عناصر الثَّقافة الأخرى، ويساعد على الوصول إلى الإبداع الفني والابتكار لأَنَّه يصل بين ماضي الطفل وحاضره ويمتد إلى مستقبله. أنواعه: الخيال العلمي: يستخدم في القصص العلمية أو قصص الخيال العلمي [لاحظ في الرّواية ما قد يذكرنا بمحاولة طيران عباس ابن فرناس، لو لم يشرح ابن طفيل أن استخدام جناحي النسر وذنبه كان بهدف “السّتر والدّفء والمهابة“: “صادف في الأيام نسرًا ميتًا، فهدي إلى نيل أمله منه واغتنم الفرصة فيه، إذ لم ير للوحوش عنه نفرةً، فأقدم عليه وقطع جناحيه وذنبه صحاحًا كما هي وفتح ريشها وسواها، وسلخ عنه سائر جلده وفصله على قطعتين، ربط إحداهما على ظهره وأخرى على سرته وما تحتها وعلق الذَّنب من خلفه وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك سترًا ودفئًا ومهابة في نفوس جميع الوحوش حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه”. [ص 11] خيال التَّأنيس: التّأنيس هو إطلاق صفات الإنسان على حيوان ما أو جماد. يعني يمكنك أن تجعل حيوانًا أو جمادًا ما يتكلمان ويفكران ويتصرفان كالإنسان. وفي الرّواية وجد هذا الخيال من خلال تربية الغزالة طفلًا بشريًّا وتعليمه لغتها، إلى درجة تبادلا فيها الكلام: “فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال، يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرَّق بينهما. وكذلك كان يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده. وأكثر ما كانت محاكاته لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع؛ إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها ولم تنكره ولا أنكرها”. [ص10] الخيال التَّقليدي: هو المستخدَم في القصص الشَّعْبِيّة والتي تحتوي على أجواء سحر وجن وغيرها. [لاحظ كيف ذكر (ابن طفيل) إحدى نظريتي نشوء الطفل (حي بن يقظان) الخيالية، إذ أحال مكان الرِّواية (الأول) جغرافيًّا إلى مكان غرائبي أسطوري أوهم- أو حاول- من خلال وصفه القارئَ أنه حقيقي من خلال تأثيثه بمكونات طبيعية لتأكيد أصله الجغرافي، يقول: “ذكر سلفنا الصَّالح…” [ص5]، ولكن هذا لم يقنع القارئ بواقعية حيّز، بل أكد له أنها تدور في عالم متخَيَّل، أسطوري، سواء أكان الكاتب مختبئًا من الرّقابة الإيديولجية خلف السَّرد الرِّوائي، أم قاصدًا إمتاع القارئِ بالخيال على نحو ما يفعل سُرَّادُ الروايات جذبًا لجمهورهم. الخيال اللّغوي: المجاز. هذا، ويمكن استخدام أنواعًا متعددة من الخيال في القصة الواحدة. وفي الرواية: قليل من المجاز؛ إلا ما جاء عفوًا ومن ضمن السّياق ولم يُقصَدْ قصدًا؛ وذلك لأنه الكاتب كان يريد عرض أفكاره محاولًا إقناع القارئ بها، لا عرض عضلاته اللغوية. (عاشرًا): في شخصيات الرّواية تعرَّف الشَّخْصيّة Character بأنَّها: أحد الأفراد الخياليين أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القِصَّة أو المسرحية، وتُقدَّم من قِبَل المؤلف وفق منهج خلق الشَّخْصيّات Characterization الَّذي يكون عادة بإحدى طريقتين: (أ)إما أن يصف المؤلف الشَّخْصيّة وصفًا دقيقًا، (ب) أو يظهر الشَّخْصيّة أثناء أحداث القصة نفسها وتفاعل الشَّخْصيّة معها. والطَّريقة الأولى هي التي يغلب اتّباعها بالنّسبة إلى الشَّخْصيّات الثَّانوية في القصة، أما فيما يختص بالشَّخْصيّات الرَّئيسة، فيغلب الدَّمْج بين الطَّريقتين. أقسام الشَّخْصيّات تنقسم الشَّخْصيّات إلى قسمين رئيسيين هما: الشَّخْصيّة الجاهزة المسطحة Flat Character، وتكون الشَّخْصيّة ذات بُعد واحد، فلا تنمو في مختلف مراحل العرض القصصي. [انظر شخصيتي: أبسال وسلامان، كذلك شخصية الجمهور القانع الذي يرفض التَّغيير، والذي ينعم بالسَّعادة ويطمئن إلى وضعه]. المدورة النَّامية Round Character، إلى جانب أنواع أخرى ثانوية. والنّامية [انظر شخصية (حي بن يقظان)]؛ فذات أبعاد متعددة تنمو مع القِصَّة، وتُظهر مواقف مختلفة لم تكن واضحة عندما قدمت أول مرة. وهذا النَّوع من الشَّخْصيّات لا يتم تكوينه إلا قرب نهاية القِصَّة، ولا يمكن التَّعبير عنه بجملة واحدة لتعدد جوانبه. هذه الشخصية لم توصف منذ البداية، بل تكشَّفَت لنا مع سير الأحداث، وفي كل حدث، يظهر لنا جانب منها، وفي النهاية، نكتشف أن (حي بن يقظان)، ومع تقدمه في العلم والمعرفة: مراقِب، مجرِّب، متسائل، باحث عن أجوبة، ذكي، مكتشِف، مستفيد من كل ما يكتشفه، غير مستسلم، محلِّل، مساعِدٌ للضعفاء من نبات وحيوان، وحتى الإنسان (عندما تعلم الكلام وقرر أن يساعد أهل جزيرة أبسال في الوصول إلى الحقيقة)، رؤوف، مدرك لواجباته ومنفذ لها، عاطفي إلى درجة الرومانسية (في تعامله مع موت أمه، وحنينه الذي يجعله يبحث عنها في أقاربها)، تطوره المطّرد مع تقدمه في العمر، منفِّذٌ لكل قراراته مهما صعبت، يعرف مايريد، ويصل في نهاية الرواية إلى قرار نهائي بالعودة إلى جزيرته للعبادة حتى الموت، يرافقه أبسال. الشَّخْصيّة الرَّئيسة: وتتبوأ عادة الدَّور الأهم في القِصَّة. وقد تكون البطولة لأكثر من شخصية في القِصَّة، فتكون بطولة شخصيتين، أو تكون بطولة مجموعة. والبطولة هنا لـ(حي بن يقظان)، إذ يتبوأ المكانة الأولى منذ البداية إلى النهاية. (ث) الشَّخْصيّة الجاهزة القياسية stock character: وهي شخصيات في متناول اليد حسب المواصفات، [كشخصية زوجة الأب الشريرة، والجدة القاصة، والجد الخبير، والأم القلقة على مصير أبنائها، وغيرها..] [لاحظ هنا في الرِّواية شخصية الأم الجاهزة التي تفعل ما تفعله كل الأمهات: [ص 10]. أما الركون إلى الشَّخْصيّات الجاهزة القياسية stock character ، فيشكّل مؤشرًا على جمود الخلفية الثَّقافية لهذه القصص وابتعادًا عن المنحى الحديث في الكتابة، إلا إن كان يريد التَّأكيد على أهمية هذه الشَّخصية [كما في حي بن يقظان]. أخيرًا، إن قراءة رواية الفيلسوف الشّاعر (ابن طفيل) الصّغيرة التي لا يتجاوز عدد صفحاتها الخمسين، لا يعني أن الرّواية سهلة الفهم، قريبة المتناوَل، بسيطة الأفكار، رغم لغتها العربية الرّاقية السّلسة؛ فهي رواية مليئة بالأفكار التي تحتاج إلى قراءات متعددة لاكتشاف كنوزها. وسواء أحببتَ الرّواية فلم تمسك عليها مأخذًا، أو شعرت أنها طالَتْ حيث كان يجب أن تُختَزَلَ، أو اختُزلَت حيث كان يجب أن تطول، فإن (حي بن يقظان) رواية يفخر الفكر العربي والسردي بها.
مشاركة :