لماذا تصر إيران على إجراء انتخابات رئاسية شاهد العالم وقائع تعليبها بشكل يومي طوال الأسابيع التي سبقت يوم الاقتراع؟ حُسمت نتائج الانتخابات قبل أسابيع من إجرائها، لا بسبب الشعبية الكاسحة للمرشح إبراهيم رئيسي، الذي انتُخب في انتخابات شهدت أدنى نسبة مشاركة منذ 4 عقود (48 في المائة)؛ بل بسبب التعليب المنظم والمحكم الذي مارسه المرشد. أشرف علي خامنئي، بداية، على «تعقيم» لوائح المرشحين منعاً لأي مفاجآت، ومهد لفوز رئيسي بانسحاب عدد من المرشحين في الأيام الأخيرة من الاستحقاق، ووصل في نهاية السباق إلى «ترئيس» رئيسي وفق رؤيته شبه المعلنة للمرحلة المقبلة من عمر النظام الثوري الإيراني. تشمل هذه الرؤية إقامة حكومة إسلامية من العقائديين الموالين للمرشد والأقرب إلى مكونات النظام الإسلامية منهم إلى مكوناته الجمهورية. كما تشمل الرؤية وضع خريطة طريق لإيران ما بعد خامنئي. ما حصل إذن هو تعيين ينتحل صفة الانتخاب، ونظام فرد ينتحل صفة دولة المؤسسات، ونظام مغلق ينتحل صفة الديمقراطية. مع ذلك حرصت إيران؛ وعبر كل الوسائل المتاحة لها، على مخاطبة الإيرانيين والعالم العربي والعالم، بأنها أجرت انتخابات رئاسية، بالغ المعلقون في مديحها وفي التأكيد على تفوق جودتها على نظريتها الأميركية. وفي سوريا، كان يمكن لبشار الأسد أن يتسمر في فرض الأمر الواقع الذي يرغب فيه، إلا إنه أصر على انتخابات رئاسية لم يعترف بها معظم العالم. وكما في إيران وعنها، انفجر المعلقون مديحاً في «العرس الديمقراطي» على الشاشات وفي الصحف، وجرت تغطية يوم الانتخاب بكل ما أوتي أنصار النظام من أدوات، وكأننا أمام انتخابات فعلية. لماذا لم يعين المرشد رئيساً، إن كان هذا ما فعله بالضبط، ولماذا لم يمدد الأسد لنفسه بقوة الأمر الواقع، إن كان لن يعترف بشرعيته أحد، على نحو جدي؟ في مكان ما يمكن القول إن خامنئي والأسد يسخران من فكرة الديمقراطية نفسها، بتقديم نسخة بالغة الرثاثة عنها، تقول للعالم؛ ولناسهم أولاً: هذه هي الديمقراطية التي يتوسلها الغرب للتدخل في شؤوننا، ولكم أن تروا كم يسهل اللعب بها والتحايل عليها لتحقيق ما يراد تحقيقه. إننا أمام سحل لفكرة الديمقراطية بأدوات الديمقراطية نفسها. وفي مكان آخر، يمكن لكتّاب ومثقفين غربيين، أن ينخرطوا في موجة مديح للذات السياسية في الغرب، والقول إن توسل الطغاة للديمقراطية هو انتصار لفكرة الديمقراطية وإقرار حاسم بأنها المصدر الوحيد للشرعية السياسية في عالم اليوم، حتى ولو كانت تمارس عبر انتخابات مزيفة... هذه الفكرة لها جذور في فكرة أعمق ذهب إليها فرنسيس فوكوياما حين أعلن أن سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي هو إعلان لنهاية التاريخ، أي إن الديمقراطية هي المحطة النهائية لتطور الفكر السياسي البشري والشكل الأخير لنظام إدارة الشأن العام والسلطة الشرعية. المفارقة أن خامنئي والأسد يذهبان إلى انتخابات في لحظة تتميز بأمرين؛ أولاً أن نظاميهما يعانيان من أزمة شرعية حقيقية على مستوى الداخلَين الإيراني والسوري كشفت عنها الانتخابات نفسها أكثر مما غطت عليها. وثانياً أن فكرة الديمقراطية نفسها تعاني من نزف حاد في سمعتها؛ بدءاً من قلعتها الأولى في واشنطن وليس انتهاءً بدول أوروبا الشرقية ما بعد السوفياتية أو إسرائيل مروراً بالهند، أكبر ديمقراطيات العالم. حدث ولا حرج عن النتائج المريعة لـ«الديمقراطية» في المنطقة، على مستوى تعطيل التنمية وضرب البني الاقتصادية وإطالة أمد الشلل المؤسساتي، كما هو حاصل في لبنان، وإلى حد كبير في الأراضي الفلسطينية منذ عام 2007. أما في مصر؛ فإن الانتخابات التي شهدتها البلاد عام 2020 قد تميزت بتنافس حاد على الدخول إلى لائحة النظام، وخضع أكثر من 87 في المائة من المقاعد لانتخابات إعادة؛ في دليل على حدة التنافس... وهي انتخابات، على عكس العزوف الانتخابي في إيران، تشير إلى حماسة المشاركة فيها بوضوح إلى رسوخ نظام ثورة «30 يونيو (حزيران)» وشرعيته الشعبية، مقروناً بمشروع تنمية واسع النطاق ومتعدد الأبعاد. في المقابل؛ فإن الديمقراطية لم ولن تكون مطية دول أخرى في الشرق الأوسط، لا سيما في الدول الخليجية، لترسيخ شرعية النظام السياسي، الذي يمتلك كل الحق في الحديث عن خصوصيات اجتماعية وثقافية وسياسية تتصل بتركيبة المجتمع وأصل فكرة نظام الحكم، والاتفاق العام على مصادر الشرعية الأسرية والقبلية. نحن إذن إزاء مقترحات عدة لآليات إدارة الشأن العام، وسبل التنمية، ومسارات الحكم، التي ينبغي عدم طمسها تحت بريق العنوان الديمقراطي، والضغط باتجاهه على نحو آلي وموحد. حقيقة الأمر أن سمعة الغرب، لا سيما واشنطن، في هذا المضمار سمعة سيئة، لا سيما عند عتاة الديمقراطية الليبرالية. لنأخذ مثالاً على ذلك؛ السلوك المتناقض لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، التي سارعت، بشخص الرئيس نفسه، إلى الطلب العلني من الرئيس المصري حسني مبارك أن يتنحى، مما أعطى دفعاً رهيباً للحراك الشعبي المصري، قبل أن تتضح اتجاهاته الحقيقية، وتتكشف عن «قيادة من الخلف» مارسها «الإخوان المسلمون» بكفاءة عالية، أوصلتهم إلى الحكم وكادت تحول مصر إلى إيران السنية!! في المقابل؛ حين اندلعت «الثورة الخضراء» في أعقاب إشراف خامنئي المباشر على تزوير الانتخابات لصالح الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، اختارت واشنطن النأي بالنفس، بحجة عدم تلويث الحراك الشعبي الإيراني وتسهيل وسمه تالياً بوسم الأمركة، تمهيداً للقضاء عليه!! لماذا لم يأبه أوباما باحتمال أن تحل لعنة الأمركة على المنتفضين المصريين، وشغلت هذه اللعنة باله في الحالة الإيرانية؟ الجواب البسيط والمباشر أن هذا تبرير كاذب في الأصل. إن جل ما أراده أوباما حينها من نأيه، هو عدم التدخل في الشأن الداخلي الإيراني لحماية المفاوضات السرية التي كانت جارية آنذاك بين إدارته وبين خامنئي حول البرنامج النووي! موقف أوباما ساهم في وأد أشرف انتفاضة إيرانية منذ 4 عقود، وموقفه في مصر فتح مسارات كادت تطيح بأكبر دولة عربية تحت عجلات الإسلام السياسي... الديمقراطية ليست المدخل للتقييم السياسي والمجتمعي في الشرق الأوسط... أقله ليست وحدها المعيار. فـ«الديمقراطية» الإيرانية، الممسوخة إلى حدود الانتخابات المعلبة، لا تغطي على أزمة شرعية النظام في إيران، في حين أن ما يبدو غياباً للديمقراطية عن أنظمة خليجية تحديداً، لا يلغي وجاهة الحكم الرشيد الذي تقدمه عواصم خليجية مهمة، ولا يقلل من شرعية الحكم فيها. هذا ما لا يفهمه الغرب، وما لا مناص من فهمه لبناء علاقات مثمرة، تمهد في هذه المنطقة لحكم رشيد ورفاه تنموي مستدام، ليست بوابته الانتخابات بالضرورة، ولا فقاعات الحرية المبنية على قصة فرد هنا وفرد هناك، أو على أوهام استشراقية تفيد بأن الإسلام السياسي هو صلب هوية المجتمعات والدول في هذا الجزء من العالم.
مشاركة :