الخرطوم مدينة عجيبة، والتعجب ليس الشعور الوحيد الذي ستثيره فيك، ولكنه أول شعور ستمنحك إياه زائراً كنت أم مقيماً. وعجيبةٌ هي لأمور كثيرة، منها أنها تستطيع أن تجمع الأمر ونقيضه في الساعة ذاتها، فهي مدينة مهمة ومهمَلة، غنية وفقيرة، بائسة وجميلة، وديعة وشرسة. قد تسيرُ في شوارعها لساعاتٍ ولن تنكر عيناك قبحَها، ولكنك أيضاً لن تستطيع الفكاك من جاذبيتها، ثمة شيء سرابيّ جميل ومغرٍ. الناس فيها يسيرون ببطء كأنهم لا يسيرون لغاية بعينها، ثم هم يندفعون فجأة مسرعين كأنهم من سلالة ريح، وهادئون هم وضاجّون كأنهم من سلالة بحر، وواسعون هم وضيقون كأنهم من سلالة صحراء. والأعجب من هذا كله، أنهم مثلما يقفون صفوفاً ممتدة ساعاتٍ طويلةً أمام مخبز ما، أو صرّاف ما، أو محطة وقود، فإنهم أيضا قد يقفون صفوفا طويلة، نساءً ورجالاً، شباباً وكهولاً ليحْظوا بتوقيع شاعرٍ على أحد كتبه، ذلك ما حدث قبل أيام حين ازدحموا في ردهات قاعةٍ فخمة منتظرين توقيعاً من شاعرهم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس: محمد عبد الباري. تعرّفوا إليه أول مرة قبل سنواتٍ عبر شاشات هواتفهم، وهو بعيد عنهم، على أرض غير أرضهم، وتحت سماء غير سمائهم، سحَرَهم بشعره، أعادَهم إلى جنة الشعر بعدما هجروها، هو ورفاقٌ له في السودان، قليلون كثيرون، منهم متوكل زرّوق والواثق يونس وعمر السناري ووهيب بكري وبقية من المصطفين الأخيار، ظلوا يدقون على جدار العصر الاسمنتيّ الصلب هذا بقصائدهم العذبة، القوية الرقيقة، لم يملوا، ولم يشْكوا، ولم يشكّوا لحظةً في قدرة الشعر على فعل المستحيلات. وسرعان ما ذاعت قصائد عبد الباري، وتناقلتها أزقّةُ الخرطوم وأم درمان والقاهرة وبغداد وعمان والرياض ونيويورك. لا بد أنهم أحسوا بدفء غامر ينبعث من كلماته، حينما وقف أمامهم تلك الليلة وقرر أن يغني هناك في قلب الخرطوم، مدينة الغناءِ الحزينِ السعيد، وهي تعرفه، فهو منها، غاب حيناً ثم عاد ‹يغني بلسان ويصلي بلسان›، ساعتها أعادهم إلى الإحساس بشعور مبهِج فقدوه زمنا ثم كأنهم به مجددا. استطاع أن يلفتهم جميعا إلى الكلمة فاللغة فالشعر، والسودانيون بهم طرب قديم للشعر، غنّى أمامهم لدقائق معدودات، ولكنْ كأنه واقف هناك أبداً، غنى للثورة وبعدُ ما جفّت دماءُ الجيلِ في خوذِ الجنود، وغنى للحب فتحسّستِ الحسان قلوبهن، وأمعنَ في صوفيته فإذا الناس كأن على رؤسهم الطير، سكارى وما هم بسكارى. منذ أن مست قدماه الخرطومَ، قبل أكثر من شهر، أشعلها عبد الباري شعراً، وحوّلها لكرنفال موسيقى، في عينيه شوق وترقب واعتذار، زار أصدقاء قدامى، ورأيتُه يقبّل يدي عبد الله شابو، ويستمع بإطراق لكل مَن يلقي عليه قصيدة، جلس ليلتئذ يوقّع على كتبه لمئات الأفئدة، جاءوا من بعيد وبعيد، يوقّع ويبتسم، ثم لا يكتفون منه، فيقاسمونه كرسيه ليطعنوا الوقت في صُرّته بصورة تذكاريّة، وكنتَ تسمع بوضوح ضحكاتِ رفاقِه أسامة تاج السر، وزرّوق وآخرين ينظرون: هل سيحتمل عبد الباري محبة أبناء بلاده!. أذكر شارَكني مرةً إعجابه وتأمله عبارةً شعرية للفيتوري يقول فيها: «عاصفة اللحظات البطيئة»، وها أنا أرى بأم عينيَّ عاصفةً من المحبات التي تتحرك ببطء إلى حيث يجلس عبد الباري، أنيقاً ووسيماً، السودانيون يحبون فيمتحنون مَن يحبون، مزّقوا مرة ثياب حسن عطية المغني حباً وطرباً، وليلتها على شارع البلدية في قلب الخرطوم، استمرّ التوقيع لساعات طويلة، مشهد غير مألوف في مدينة كالخرطوم لم تُشْفَ من جراحها بعد: شاعر جالس هذبه الشعر، ومحبون واقفون هذبتهم الثورة، صفوفاً تسير بثقل، نهراً من الأشواق والأفراح يصب بين يدي محمد عبد الباري وهو يبستم. قبل ذلك عندما كانوا هم جلوساً وهو يتصاعد أمامهم قصيدة قصيدةً، غسَل قلوبهم بالشعر، وعوّضهم عن مشقة يوم كامل تحت شمس الخرطوم بقصائد تعلق بالذاكرة مثلما يعلق بها وجه حبيب. ولمَ العجب؟، ففي محمد عبد الباري كلُّ ما يحبه السودانيون: المعرفة الرفيعة والتواضع والتبسط في الكلام، وفي شعره رقة وعنفوان، وتصوف بادٍ وباطن ورثه عن عائلته وصقَله باجتهاده، وقد خبر الفلسفة دراسةً وتدريساً، ثم هو قد جاء من بعيد، والسودانيون كعادتهم، يشتعلون قِرى، وفوق ذلك فقلبُ محمد مفتوح للجميع. وها هو ذا، هنا وهناك يلتقط القصائدَ من وجوه أبناء بلاده وبناتها، من هَشابها وطلحها ونخيلها، من نيليْها، ورمالها، من حكاياتها، من صمتها المغيظ، وغضبها المفرح، من أحزانها ورقصاتها، من كل شي فيها، يأخذ منها ويمنحها، يعانقها وتقبّله، ثم ها هو ذا مصاباً بداء الشعراء عبر العصور: ‹يطاعن خيلاً من فوارسها الدهرُ›، سيغادر وسيعود، وبين الرحيل والعودة ثمة تنبت غابةٌ من شجر الذكريات، وزهور المودة التي لا تذبل، حتى وإن تأخر عنها فهل تنسى الخرطوم أبداً أبنائها!. *الخرطوم 26/6/2021 م
مشاركة :