الكتابة مأزق، يثقب الذاكرة، ويجعل المرء خارج السيطرة، إذ كلما أراد الخروج من الصفحة، عاد إلى بياضها، وطولب بالمحو لما يعرف، ثم البدء من جديد، فكيف بكتابة اشتملت على قضية كبرى كفلسطين. منذ البدء، يفصح الراوي السردي “عمران المالح”، عن الغرض من الكتابة، فهو مُحكِّم وناقد وقارئ ممتاز، وللتو استطاع إنهاء تحرير روايته الأولى أو هو على وشك فعل ذلك، وتشاء الظروف أن يلتقي بـ”فرانز غولدشتاين” اليهودي المعروف والمدافع الكبير عن إسرائيل، حيث يطلب منه تمرير مخطوطة “اليوم المقدس”؛ كي تفوز بجائجزة الغونكور؛ إحدى أرفع الجوائز الأدبية في أوروبا. لفرط مثاليته الزائدة ومدافعته عن فلسطين؛ لكونها حقًّا لشعبها لا للشعوب القادمة والمهاجرة، التي تريد استعمارها وطرد سكانها، رفض عرض غولدشتاين وأصر على رأيه، ممنيًّا النفس بابتعاده، لكن شيئا من ذلك لم يحصل، بل ازدادت الضغوطات عليه؛ حيث قُدم له شيك بقيمة عشرين ألف فرانك، لقاء تمرير الرواية، مع وعد منه بطباعة وترويج روايته الأولى التي أنجزها. تعبث الأهواء به، ويجدها تتلاعب بأفكاره، بل تحثه على القبول، رغم إدراكه أنها رشوة، لكنه يصر على عدم الاستجابة. هنا يتدخل غولدشتاين ويمارس نوعاً من الإرهاب الفكري، إذ يخبره عن معتقل “أوشفيتز” الرهيب، ويصرح أنه خدعة، فهو لم يكن هناك يوماً، أما عائلته المكونة من أختين وأم، فقد قتلهم بنفسه؛ إذ دس للأختين سم الفئران في الطعام، ثم خنق الأم بكل برود، وبعدها أفشى سر الأب لـ”الغستابو”؛ جهاز الاستخبارات السري لألمانيا النازية، فتم اعتقاله وإعدامه. التبرؤ من الإنسانية، والانسلاخ من الآدمية والمشاعر، إحدى صفات غولدشتاين التي تميز بها خلال رحلة الرواية، بينما يحاول إقناع عمران بقبول الرشوة وتمرير رواية اليوم المقدس للفوز بالجائزة، ويُضاف إليها إفشاؤه العديد من الأسرار، مثل إخباره بأمر السفينة “إيجوز”؛ التي تقوم بتهريب اليهود من المغرب، ومن ثم نقلهم إلى فلسطين، مع وعد بحياة أفضل، فهذه السفينة أغرقتها إسرائيل بنفسها؛ كي تتواصل هجرة اليهود ولا تتوقف. يضطر عمران للموافقة على عرض الرشوة، فيضع الشيك في جيبه، ويخرج منتظراً اجتماع لجنة الجائزة، التي تقرر فوز الرواية بالإجماع، فالمُحكمون تم التعامل معهم وإغراؤهم مثلما حصل معه، وهنا يتفتق ذهنه عن حيلة بارعة؛ حيث يقوم بنقد الروايات الأخرى، رافضاً فوز أيٍّ منها، فيحدث خلط للأوراق ويفشل تصويت منح الجائزة، ثم تؤجل لحين تشكيل لجنة أخرى، عندئذ يخرج مرتاح البال، ويظن الأمر انتهى. لعنة غولدشتاين تلاحقه، إذ يمر به ويهمس في أذنه؛ بأنه يعرف ما قام به، فلينتظر العواقب. لم يولِ الأهمية للرجل وكلماته، وأكمل حياته كأن شيئا لم يكن، لكن الظروف تعاود معاندته حين يأخذ مخطوطة روايته إلى الناشرين، الذين يعجبون بها في البداية ثم يرفضون طباعتها. يدرك المؤامرة التي تحاك ضده، ومن أجل الخروج منها؛ يقرّر العمل على تغليفها وطبعها بمساعدة أحد الأصدقاء، وهو ما تم فعلاً، وتم توزيع الدعوات لحفل التوقيع، الذي حضرت الشرطة خلاله، وطلبت منه ومن الناشر المحلي؛ إيقاف البيع واسترداد جميع النسخ الموزعة، بحجة قضية رفعتها امرأة تدّعي أنها صاحبة الرواية. يؤخذ إلى قسم الشرطة، وهناك تتضح الصورة، فالضابط نفسه يعترف أنه واقع تحت تأثير غولدشتاين، الذي يحضر ويعرض عليه إخراجه من ورطته، وسحب القضية وإقفالها حال استماعه وموافقته على ما يقول. يكتشف أن ما حصل مجرد “قرصة أذن”؛ لإفهامه هذا الأمر. تنتهي الرواية باحتجاز عمران داخل زنزانة بيضاء، وتعذيبه بالصعقات الكهربائية، وكلما شارف على الموت؛ تمت إعادته للحياة؛ كي يبقى لمشاهدة ما يحصل له، لرفضه الخضوع لغولدشتاين، وبسبب الضبابية على عينيه وتشوش أفكاره؛ لا يدرك مكان احتجازه، هل هو مستشفى أم سجن! تقدم الرواية الحدث بصيغة “التداعي الحر”؛ المنتقل بين الأماكن والأزمنة بأسلوب التذكر والاستعادة، فالأهم الوصول إلى الفكرة؛ التي تشير إلى أن دولة إسرائيل قامت منذ تأسيسها على الخداع، مع إظهار صورة معاكسة للحقيقة، ثم قيامها بنشر ذلك واستغلاله لمصلحتها. التداعي الحر تقنية من تقنيات السرد الحديث؛ حيث تناول الحدث يتم عبر ومضات فلاشية، تنتقل من جزئية إلى أخرى، دون التقيد بالترتيب الزمكاني، مثلما هو في الروايات التقليدية، بل تستكشفه عبر المرور بتقاطعات عمودية وأفقية، وهو ما أجاد “محمد سعيد احجيوج” استخدامه في بناء الرواية.
مشاركة :