كان الثامن من يونيو الماضي الذكرى التاسعة والعشرين لاغتيال الكلمة الحرّة.. الكلمة الصادقة التي سعت لجلاء الحقيقة، وحاولت زحزحة جزء من ذلك الانسداد الحاصل في العقل العربي. كانت الذكرى البشعة لصوت الرصاص وهو يغتال صوت العقل والضمير والروح الحرة. كان الإرهاب متمدداً يجرجر وراءه أذياله في كل بلدٍ عربي تقريباً، وكانت هناك أصوات تحاول تعرية كل تلك الذيول والأسمال المتسخة، وكان فرج فودة – رحمه الله – أحد تلك الأصوات. لن أستحضر قصة نموذج نضالي بات رمزاً لدى أجيالٍ جديدة لم تدرك صخب تلك المرحلة، ولكن وصلها صدى ذلك الرصاص الذي اخترق جسد فرج فودة وفؤاده، فأصبحت تتذكر الشهيد ومشروعه وكتبه، في حين أن قاتليه -كلهم- قد ألقى بهم التاريخ في قمامته ومضى. لا حاجة لاستحضار رمزية فكرية باتت نبراساً لدى أجيال جديدة، ولكني فقط أتخيل كم (فرج فودة) بشكل أو بآخر في عالمنا العربي؟ ليس شرطاً أن ينتهي بهم المطاف إلى القتل، ولكن يكفي أنهم يُقتلون في أرواحهم النقية ألف مرة في اليوم الواحد، وطوال حياتهم تلك. كل (فرج فودة) في مجتمعاتنا هذه إنما هو نموذج لانتصار مؤجل ولكنه ساحق، وعليها ألا تقلق تلك الأرواح النقية والضمائر الحية إزاء كل هذا الانسداد والجهل وخفوت ضوء الأمل. إن لهذا الكون ذاكرة ممتدة تضيق عن إدراك امتدادها تلك العقول الصدئة، وكل فكرة واهمة تسعى تلك العقليات الخردة أن تبقيها حيةً لا تلبث أن تتلاشى مهما أطلقوا من رصاص أو سفكوا من دماء أو قتلوا من أرواح، ثم فجأة يعود النهر لمجراه وتنكشف الأكاذيب وتعود العقول لرشدها، ويرجع المنطق لمكانته. هذا مما لا تدركه تلك الضمائر الفاسدة التي تنشر الموت وتنثر القبح في أي تاريخ تتواجد فيه بسبب لعنةٍ ما. طوال التاريخ.. وفي كل مرحلة من مراحله، يكون هناك (فرج فودة) قتيل، و(حلاج) مصلوب، و(سبينوزا) سجين، و(فولتير) منفي، و(ابن رشد) مُلاحق، و(ابن عربي) مكروه بأكثر من كراهية الشيطان نفسه. كل هؤلاء كانوا ضحايا لصلافة الكهنوت، واستكباره في كل زمن، ورعبه من الاختلاف. كل واحد من هؤلاء قد واجه جيشاً من الأعداء الذين لا ينفكون يحاصرونه إلى حدّ أنهم قد ينبتون في وسط بيته كالزقوم. أعداء الحياة لا يتعلمون في كل مرةٍ أنهم خاسرون، ولا يدركون الحمق والعته الذي يتمتعون به وهم يعتقدون أنهم بإسكاتهم اللسان فقد أسكتوا الكلمة، أو أن بإسكاتهم الكلمة فقد حبسوا شذاها الذي يفوح في الأزمنة فيهطل على كل جيل فيبعث الأرواح من جديد؛ ليوقظها لمعاناة جديدة تنتظرها وكفاح جديد، ثم تمضي الرحلة بين قطبي النور والظلام مع كل جيل جديد؛ ليأخذ الصراع دوره الأزلي في رحلته الممعنة في دراما إعادة تدوير الزمن بين ولادتين. كم يعيش معنا من (فرج فودة) أخرسه أهله أو معلموه أو زملاؤه أو أقاربه، فظل قتيلاً لا يُرى سوى بروح ميتة يلبسها اضطراراً من فوق روحه الحقيقية التي تنوء بثقل اللباس وكآبته؟ إن (فرج فودة) فكرة لا مجرد شخص.. تلك الفكرة التي أراد ويريد المتطرفون دائماً أن يقتلوها، فإذا بها في كل جيل تتوالد بآلاف الأسئلة الحارقة. فهل يكتفي الحمقى يوماً من حمقهم؟ ليدركوا أن ذاكرة الكون، ونظرته الوادعة تلك، لا يمكن أن تسمح لهم بتمرير أوهامهم سوى بعض الوقت للتسلية، ثم يكون السقوط الحتمي إيذاناً بإطلاق أسراب تلك الأفكار؛ لتطير نحو رحلتها الخالدة في الكون كبداية لخلقٍ جديد.
مشاركة :