عقلنة حماس وغطرسة عباس هناك بصيص أمل. لو أجريت انتخابات وسقطت السلطتان، أو لو أن حماس تعقلنت في السلطة، واضطرت إلى التحاور أو الشراكة مع قوائم فلسطينية أخرى، وانتهت فتح عباس إلى حيث يرحل عباس، فإن حطام فك الرحى الأول سوف يدفع إلى حطام الفك الثاني أيضا. الغطرسة داء لا شفاء منه نعم، لحماس تاريخ أسود في العلاقة مع باقي الفصائل الفلسطينية، وأيديها ملوثة بدماء فلسطينيين لم يوافقوها على سلطتها، وهي تنظيم ذو طبيعة أيديولوجية صماء، وتعاني من سيكولوجيا انتحارية تنعكس على سلوك قياداتها وعناصرها. كما أنها تملك الحق كله، ولا تصدق أن الآخر يعرف الحق أصلا. وتمارس ألعاب نفاق مع مصر، وترتبط بإيران رغم معرفتها بأنها ليست أقل سوءا من إسرائيل وأنها قتلت وشردت في 10 سنوات أكثر مما فعلت إسرائيل في 75 عاما. وتجد حماس لنفسها مبررا يصلح لفعل الشيء وعكسه كغيرها من جماعات الإخوان. وهي ليست مما يمكن الرهان عليه في إدارة قرية من عشرين منزلا، لأنها سوف تهدم نصفها، وتسجن الباقين. إلا أن عقلنتها أسهل من محاولة إصلاح غطرسة الرئيس عباس. وهي مفاوض أفضل منه، ومسالكها المجنونة تنفع وتضر، إلا أن مسالك سلطة الرئيس عباس تضر ولا تنفع. وفي حماس من الفساد ما يزكم الأنوف، إلا أن سلطة الرئيس عباس هي الفساد نفسه. وحماس ترفع شعارات غير معقولة، ولكنها تصدقها، بينما ترفع سلطة الرئيس عباس شعارات معقولة، ولكنها لا تصدقها. وتقيم حماس نظاما إداريا فاشلا يعتمد على المساعدات الخارجية بسبب الحصار، بينما لا تقيم سلطة الرئيس عباس أي نظام، وتعتمد على المساعدات الخارجية من دون حصار. وإذا كان لك في حماس رأي آخر، اعتبرتك كافرا وظلت تنتظر أن تستغفر إسماعيل هنية ليرضى عنك الله، بينما ترسل لك سلطة الرئيس عباس من يطلق عليك النار أو يقتلك بالهراوات وأنت في فراشك، من قبل أن تجد وقتا لكي تقول لا إله إلا الله. وأيدي حماس ملوثة بدماء فلسطينيين وإسرائيليين، إلا أن أيدي سلطة الرئيس عباس ملوثة بدماء فلسطينيين فقط. يقول لنا ذلك إن الفلسطينيين يعيشون في ظل وضع موبوء إما بالقهر أو بالفشل. وهناك من يعتقد أن القهر أرحم قليلا من الفشل الذي لم تقترح سلطة الرئيس عباس سواه. حماس تنظيم سياسي يمتلك نوافذ تطل تارة على الإرهاب، كما تطل تارة أخرى على البحث عن سبيل للتعايش، وتقبل الهدنة من حين إلى حين بعد أن تحرّض إسرائيل على قصف القطاع ردا على ما تطلقه هي من صواريخ ضجيجها أكبر من أدائها. بينما فتح الخاضعة للرئيس عباس لا تملك نوافذ تطل على أي شيء أصلا. وإسرائيل لا تقصف الضفة الغربية رأفة بالفلسطينيين الذين يعيشون تحت سلطة هي التي تقصف أعمارهم، تارة بالوباء، وتارة أخرى باللقاحات المنتهية الصلاحية، كما تقصف أراضيهم بالتهاون (تحت الشعارات وفوقها) مع توسع عمليات الاستيطان. وتمتلك حماس، لأسباب شعبوية، دوافع للغضب ضد الاحتلال، بينما لا تستشيط سلطة الرئيس عباس غضبا إلا على الفلسطينيين الذين يتهمونها بالفساد. ولقد أظهرت حوارات القاهرة أن حماس تستطيع التفاهم مع غيرها على بعض أسس، ولكن أظهرت سلطة الرئيس عباس في تلك الحوارات أنها لا تستطيع التفاهم حتى مع نفسها ولا تنفذ ما توافق على تنفيذه. وعندما انقلب الرئيس عباس على الانتخابات التشريعية، فقد أثبت أنه لا يثق حتى بأصبعه. هذا هو الحال. وصار لزاما على الفلسطينيين أن يقعوا بين فكي الرحى، ليتم طحنهم إما بالأكاذيب والأوهام، وإما بأعمال الفساد والاستبداد. وهم في خيار دائم بين السيء والأسوأ منه، وكأن الله لم يترك للعاقل منهم أي خيار. ولولا أن الأمل ما يزال معقودا على جيل جديد من شباب فلسطين الباحثين عن الحرية والتغيير والقادرين على فهم ما يحيط بهم من دون أن يلبسوا له نظارات تغير لهم الألوان، لقلت أن اذهبوا لتمنحوا كل السلطة لحماس. سوف تُهدم نصف منازلكم، ولكن سيبقى بعض الأمل حيا. لأنها في النهاية تنظيم سياسي يريد أن يحتفظ بقدرته على البقاء، وقد يتعقلن، بينما سلطة الرئيس عباس تنظيم فردي يمارس سلطته بجنون القناعة أنه هو ولا أحد سواه. وهو يحكم ليس برضى الفلسطينيين ولكن برضى غيرهم. إنه حال ليس كمثله حال. والخصومة بين فكي الرحى تجعل التوصل إلى حل أو تسوية أو سلام مستحيلا، لأن العداوة بينهما تعيق القدرة على استبيان الطريق. ولقد كشفت الاستعدادات للانتخابات عن 34 قائمة غير قائمتي فتح الرسمية وحماس، ليقول الفلسطينيون من خلالها إنهم قرفوا من ثنائية الخراب التي تقترحها عليهم فكّتا الرحى، وإنهم بحاجة إلى سلطة تُصغي إليهم لا سلطة تُملي عليهم. والأنظار تتسلط على هروب الرئيس عباس من الاستحقاق الانتخابي خوفا من الهزيمة. ولكن من قال إن حماس لم تهرب أيضا؟ هل سمع أحد أنها تمسكت بإجراءات الانتخابات وأصرت عليها؟ لقد اكتفت بالتنديد لتكسب ورقة إضافية، إلا أنها رضيت من الناحية العملية بالقرار وتواطأت على القبول به، لأنها كانت تخشى الخسارة أيضا. ولقد أثبتت سنوات الانقسام أن هاتين السلطتين بحاجة إلى بعضهما، وهما باقيتان على صدور الناس بفضل الانقسام نفسه، ولا يناسبهما وجود سلطة وطنية موحدة. لأن إحداهما سوف تخسر بكل تأكيد. وهو ما لا يفيد الأخرى، إذ تسأل نفسها: من هو إذن العدو الذي سنحاربه؟ وما هي الذريعة التي تبرر لنا التمسك بما لدينا؟ ولكن هناك بصيص أمل. لو أجريت انتخابات وسقطت السلطتان، أو لو أن حماس تعقلنت في السلطة، واضطرت إلى التحاور أو الشراكة مع قوائم فلسطينية أخرى، وانتهت فتح عباس إلى حيث يرحل عباس، فإن حطام فك الرحى الأول سوف يدفع إلى حطام الفك الثاني أيضا. التخلص من بعض الطغيان قد يفتح الطريق إلى التخلص من بعضه الآخر. فساعة يختبر الفلسطينيون قوتهم بالانتخاب، ويعرفون ما معنى قدرتهم على التغيير، فإنهم في النهاية سوف ينتخبون سلطة تصغي إليهم. الغطرسة داء لا شفاء منه. وقد أصاب سلطة عباس حتى أصبح سرطانا يجيز لها قتل من يعارضها بتلك الوحشية التي قُتل بها نزار بنات. وليست حماس سوى فضيحة. وهي بحاجة إلى ستر. هذه الحاجة هي التي تملي عليها أن تتعقلن لكي تتسع قدرتها على البقاء. ولكن سلطة الفشل التي سوف تنتهي إلى إقامتها ستكفل أن تزيل الستر عن الأبصار، لترى ما غاب عنها. إنه حال، لا يتغير إلا بحال ينفلت كليا من طوق الرحى. علي الصراف كاتب عراقي
مشاركة :