القاهرة مدحت صفوت: مثّلت رواية الحي اللاتيني للكاتب اللبناني سهيل إدريس 1925- 2008 واحدةً من قائمة ليست بالطويلة في تاريخ السرد العربي، لأعمال تناولت العلاقة المركبة بين الذات العربية والآخر الغربي، حيث وضعت بجانب قنديل أم هاشم ليحيى حقي وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح. من جهة، احتل موضوع العلاقة بالغرب، ولايزال، مساحة كبيرة في الأوساط الثقافية والفكرية، لما للموضوع من أهميه كبرى، خاصة في ظل تصاعد المواجهة مع الولايات المتحدة باعتبارها تمثل الثقافة الغربية، والعلاقة بالغرب جدلية تتسم بالتعقيد الشديد؛ حيث تتداخل عناصر مادية أخرى قيمية (حضارية) ضاربة بجذورها في عمق التاريخ مكونة الرواسب من العداء المتبادل في أغلب الأحيان، أو الانبهار المتبادل في أحايين أخرى، لذلك تظل العلاقة ملتبسة ما بين صراع وحوار، وتعد هذه الإشكالية في نظر د.هالة مصطفى أخطر وأهم إشكالية عرفتها علاقتنا بالغرب، وهي حب وكراهية الغرب في وقت واحد، القرب والبعد عنه في مسافة واحدة، فالغرب كما كان عنواناً للحضارة في عيون العرب والمسلمين، كان أيضاً رمزاً للغزو والاحتلال وقهر الكبرياء الوطني، الإشكالية التي نلاحظها في الروايات المشار إليها آنفاً. ويمثل تاريخ صدور رواية إدريس، مطلع الخمسينات، نقطة مهمة في تناول النص الذي تميز بمستويات لغوية وسردية متداخلة، شكلت حينها مسارًا فنيًا جديدًا في الأدب العربي، إذ أصدر الكاتب اللبناني روايته والعالم العربي ينتفض ضد الاستعمار التقليدي، البريطاني والفرنسي تحديداً، بزيه العسكري، فيما يترك الاحتلال ابنه، الكيان الإسرائيلي، وتشهد المنطقة شتاتاً فلسطينياً، بالتالي اكتسب نص الحي اللاتيني أهمية تأتي بجانب الأهمية الفنية، وإمكانية اعتباره وثيقة نستطلع فيها صوراً من جوانب الآخر، لكن أغلب القراءات النقدية، اكتفت بافتتان سهيل إدريس بباريس، وبالفلسفة الوجودية، وانطلق النقاد في تحليلاتهم من زاوية الافتتان بالآخر، مع التحفظ على تناقضاته التي سببت صراعاً نفسياً للذات الساردة بالرواية في مطلع زيارته إلى باريس، لكن، وبقراءة أخرى، يمكن أن تمنحنا اللغة تأويلاً آخر، ملخصه باريس مدينة اللااستقرار، الخالية من المرافئ جغرافياً ونفسياً، أو لنقل البعيدة عنها، فيما كان لبنان حارس البوابة وعاصمته بيروت في وسط ساحل الشرق بين حيفا والإسكندرية. وفي روايته، علاقة البطل بباريس ليست ذات وتيرة واحدة، وإنما هي علاقة متطورة، تتغير ملامحها مع الأيام، تبدأ الأحداث بتصوير العاصمة الفرنسية حلماً وجنة العربي المسافر والفردوس المشتهى، وملكوت طالب بعثة الدكتوراة، والوصول إليها يعني الولادة من جديد والهواء الجديد ونسيان الماضي. في باريس، يجب ألّا نسأل لماذا أتينا، حسبك أنك فيها، عش قليلاً دون ما تفكير وتدبير، عش بوهيميا، لعلك تدرك فيما بعد السبب العميق لمجيئك، ربما تدرك ذلك، إذ تعود إلى بلادك. في الطريق إلى باريس، لا يهتم بطل الرواية، بمارسيليا أو مينائها، ولا يعبأ بليون وقطارها، فالهدف عما قليل سيكون في الحي اللاتيني، سيتحقق الحلم المستحيل، وتتباين الصورة الحقيقية لمعمار الحي عن الصورة المتخيلة في ذهنية الشخوص، فالشوارع فسيحة والأبنية مرتفعة وضخمة ينبغي أن تكون هذه بلاداً أسطورية العظمة، حتى يستحق الطلاب فيها حياً كالحي اللاتيني ما يعني أن باريس بدت مقلوب بيروت وساحة تفتح ذراعيها للوافدين، أو هكذا تصورها، لكن شبح العاصمة اللبنانية يحل بين الحين والآخر، ويتسرب الطيف البيروتي بين مفردات اللغة، في محاولة للاستمساك بالهوية، المهددة، ربما، بمحاولات المسخ والانمحاء، والذوبان في هوية الآخر وبشروطه الحضارية، وهو ما دفعه في نهاية بعثته إلى تأسيس رابطة للطلاب العرب والمحاضرات القومية. ويمر السرد والوصف على الحي، وينقل التفاصيل مشهدياً، فندق كلود برنار، ملتقى رود ديزيكول، بولفار سان ميشال، سينما البانتيون، مقهى لاسورس، ومقهى ديبون ملتقى المتحررين أبعد حدود التحرر من فتيان الحي اللاتيني وفتياته، كما تعيد باريس تشكيل وعي وثقافة الطالب العربي، فيتعرف مرة أخرى، وأعمق، إلى جان بول سارتر، أندريه جيد، لا غاش، جان روستان، لو كوربوزييه، وغيرهم. ويحتفي السرد بفندق كلود برنار الأنيق الذي يجمع الشخصية الرئيسية وأصدقاءها: أحمد، وربيع، وفؤاد، وعدنان وصبحي، لكنه فندق مكلف، خاصة بعد أن طلب منه صديقه أن يستقلّ كلّ منهم بغرفة خاصة، ما يجبرهم على البحث عن غرفتين بفندق أقل تكلفة. ومع كل ما سبق، تنشأ معرفة المسافر العربي في باريس بعدد من الخيبات، خاصة العاطفية، ويمر بفشل في علاقاته النسائية لقد هربت من جراحاتك من دنياك الشرقية، فما الذي أصبته من الهرب إلى هذه الدنيا الغربية؟ جراحات أشد إيلاماً وأنضح بالدم، ليس هنا المرأة التي حلمت بها، ليس إلّا صحراء ألم من صحراء شرقك ثم يمر بخيبة فتاة قاعة السينما، التي تحرش بها وداعبها بعد أن استسلمت له، ثم يقابل ليليان التي سرقت نقوده واكتشف زيف ادعائها بنسب قصائد جاك بريفير إلى نفسها، كذلك مارجريت التي لم يكن هدفها سوى اللذة، الأمر الذي دعاها إلى أن تترك الطالب العربي بعد أن أوسعته اتهامًا بالأنانية القذرة كبقية الرجال! وبعدها، تتخذ علاقة البطل بباريس منحى جديداً، إذ يلتقي ب جانين مونترو الفتاة التي مرت بقصة فاشلة بعد اكتشاف خيانة صديقها، فاقترب منها الوافد العربي وتتشابك خيوط علاقتهما، ليكتشف مدى رهافتها وحساسيتها واتساع ثقافتها، وتفتح أمامه عالم الموسيقى الكلاسيكية وتعرفه كيف يتذوقها، ويندمجان، ويتحول ذلك الطالب العربي إلى أيقونة حياة جانين لتشعر بالضياع حينما يقضي إجازته الصيفية في بيروت لقد طبعتني بطابعك، وسأظل أبداً أسيرة قيودك، إنه مصيري تقرر منذ رأيتك، لم تبق لي إرادة، لكن الشاب العربي يود الخلاص منها، وستضطر جانين إلى التخلص من الحمل، وتخسر عملها وتصير فتاة رصيف بعد أن يغادرها من أحبته. باريس التي رحل البطلُ إليها وكله شوق، غير عابئ بميناء مارسيليا، لأن الهدف العاصمة ومتهللًا لمغادرة الميناء اللبناني، يعود منها، بعد أن لم يجد مرافئ ولا موانئ، تستقر فيها كينونته، فتعود باخرته صوب الساحل الشرقي، ليلتقي وجوه الأهل والأصدقاء، خاصة وجه فؤاد الصديق الذي رفض أن يتزوج أجنبية خشية أن تعوقه عن النضال، ويظل هذا الوجه الحبيب يكبر وينمو، ملامح وتقاسيم عميقة معبرة، واثقة مشرقة، ويرتفع ويسمو، حتى يحتل الشاطئ، وكل شيء من ورائه ظل، ثم يملأ الأفق كله، فلا ترى عيناه من دونه شيئاً. على شاطئ لبنان يصافح يد فؤاد ليشعر بأنه يصافح عشرات من الأيدي التي يعرفها، وألوفاً من الأيدي التي لا يعرفها، انتثر أصحابها هنا في بيروت، وهناك في دمشق، وهنالك في القاهرة، والقدس وبغداد وتونس، وفي كل ركن من بلاد العروبة. باريس على شاطئ بيروت صفحة تطوى، ومرحلة تنتهي، بفنونها وجنونها وحرياتها وفلسفاتها، بعد أن تناول ذراع أمه ومضى بها، وغمره الاطمئنان (الذي لم يكتشفه في فرنسا)، حين شعر بأن فؤاد إلى جانبه، وأعادت أمه السؤال: لقد انتهينا الآن إذن يا بنيّ، أليس كذلك؟ فأجابها من غير أن ينظر إليها: بل الآن نبدأ يا أمي...
مشاركة :