هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «ماذا تفعل في الحي اللاتيني؟»

  • 7/13/2016
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

ربيع 1968 سافرت إلى مونترو، سويسرا، لكي ألتقي الدكتور يوسف مقصود، قريبنا العزيز وصديقنا الحميم، الذي جاء من الولايات المتحدة للمشاركة في مؤتمر طبي. فاتصل يقول بلهجته الاغترابية المطعمة باللكنة الأميركية: «خال، لاقينا عَ ساويسرا». وكان «الخال»، ابن شقيقة جدي ومرعيه صغيرًا، إنسانًا حبيبًا لماحًا. فذهبت إلى «ساويسرا» لأمضي في رفقته نحو عشرة أيام. وفكرت في أنه لا يزال لديَّ بقية من الإجازة، فركبت القطار إلى باريس للقاء الأصدقاء. وصلتها مساء العاشر من أيار، فوجدت «محطة ليون» خالية وخائفة. خرجت إلى موقف التاكسي، فلم يكن هناك سوى بضع سيارات بدل الطوابير المتزاحمة. صعدت في إحداها وأعطيته العنوان في شارع غي لوساك، فتطلع إلى الوراء مرتعدًا وقال: «تفضل ترجل، فأنا لا أذهب إلى هناك». تفضلتُ فترجلتُ وركبتُ سيارة أخرى، ولما أعطيت العنوان إلى السائق، تطلع إليَّ ببلاهة وقال: «هل جننت؟ ألا تعرف ماذا يجري هناك؟». أخبرني بأن الضفة اليسرى تشتعل. الطلاب يقتلعون حجارة الطرق، وشرطة الطوارئ تسد منافذ الطرقات، والثورة قادمة. بعد محاولة، اتفقنا أن يوصلني إلى ضفة السين، ومن هناك أمارس جنوني وحيدًا. أنزلني على بوابة جادة «السان ميشال»، وتركني أصعد مع حقيبتي نحو الفندق، مارًا بمئات الجنود الذين يتأملون باستغراب واستهزاء، هذا السابل القادم إلى الحي اللاتيني هذا المساء. وضعت حقيبتي عند «الكونتسة دو سيغور» وخرجت أمشي، فوجدت الشوارع تمتلئ بالطلاب فوجًا بعد آخر، مثل أهراء القمح. وفي طريق العودة، كانت الأشجار أيضًا قد بدأت تُقطع، وعند منتصف الليل كان الشارع تحت نافذتي يحترق بكل ما فيه. الباريسيون يلبون مرة أخرى دون وعي «النداء إلى المتاريس». كان للثورة شعارات كثيرة وخراب عظيم، ولم يفهم أحد كيف ولماذا قامت، أو كيف انتهت. ووقفت فرنسا على حافة الانهيار عندما انضم العمال إلى الطلاب في فوضى الدمار، مما أخرج ديغول عن وقاره للمرة الأولى والأخيرة ليقول: «الفرنسيون يوسخون على أنفسهم». من غرفتي المكسورة الزجاج بالقنبلة المسيلة للدموع، رحت أكتب «للنهار» يوميات باريس المحترقة. نقلتني الصدفة إلى الصفحة الأولى وطبقة المراسلين. لكن تلك كانت آخر علاقة لي بالحي اللاتيني وأحلامه ورومانسياته وموجاته التحررية. وعندما عدت إلى باريس للإقامة والعمل في «المستقبل» عام 1977، اخترت باريس الأكثر هدوءًا وعقلاً. وبقيت تلك العلاقة الحميمة بأحد أجمل وأغنى آداب العالم. وخلال حرب لبنان، استضافت فرنسا عشرات اللبنانيين، واستضافت ثلاثة من أشهر المنفيين السياسيين: الرئيس أمين الجميل والعميد ريمون إده والجنرال ميشال عون، وكانت نجمة المنفيين الكبار علياء الصلح، سيدة «الألق السياسي» التي كان مرورها بالصحافة حدثًا وطنيًا. إلى اللقاء..

مشاركة :