العبث اللامتناهي في 'اللص والكلاب'

  • 7/8/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

السمة الغالبة في إبداع نجيب محفوظ هي التنوع، واجتراح أساليب جديدة في كتابة الرواية؛ فهو ليس من أكثر الروائيين غزارة في تأليف الأعمال الروائية فحسب، بل تمَّكَن من سبك قوالب تتلاءم مع الأفكار التي اتخذها قوامًا لنصه الروائي. وتفادى صاحب "خان الخليلي" الوقوع في مطب التكرار والتشابه في الأُسلوب؛ لأن هذا الروائي لم يَكتبْ لتسجيل الحضور والبقاء في الواجهة، بل كل ما قدمه، بدءًا من الروايات التاريخية، مرورًا بما يُسمى بالواقعية والرمزية والملحمية، إلى آخر ما ظهر له بعنوان "أحلام فترة نقاهة"، يأتي تنفيذًا لخطةِ دقيقة، ويُساندهُ تأملُ مسبق لضرورات المرحلة، وما تفرضه من إجراءات على مستوى العناصر المركبة في لحمة وسدة العمل، وبما أن نجيب محفوظ قد عاصر تحولات جسيمة على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، لذلك كان يتريثُ إلى أن يتبلورَ لديه تصور واضح، قبل أن يكتبَ عملًا جديدًا، إذ عقبَ ثورة 1952 في مصر يتوقف نجيب محفوظ عن الكتابة! وتستمرُ هذه الحالة حتى سنة 1959 ومن هنا يدخلُ إبداع نجيب محفوظ في طور مختلف، ويتغيرُ أسلوبهُ؛ إذ يميلُ إلى الرمزية ومُعالجة الموضوعات الوجودية بلغة مُكتنزة، في هذه المحطة من حياة محفوظ الإبداعية تتصدرُ ثلاثة عناوين المشهد: "اللص والكلاب"، "الطريق"، "الشحاذ". حيثُ يسِمُ انغلاق تشاؤمي روايات تلك المرحلة على حد تعبير الكاتب التونسي مُصطفى التواتي. يذكر أنَّ الطابع التشاؤمي ينسحب أيضًا على "ثرثرة فوق النيل"، ولكنْ تبدو رواية "ميرامار" أقل تشاؤمًا، مع أنها صدرت خلال السنوات العشر التي افتتحتها "اللص والكلاب" سنة 1961، إذ يدركُ المتلقي الفرق الواضح من حيث الشكل والأُسلُوب بين هذا العمل وما سبقه من روايات تطبعت بخصائص ظروفها، وما يفتحُ الباب لقراءة رواية "اللص والكلاب" من مستويات مُتعددة أنَّ مكوناتها من اللغة والشخصيات والمكان مُحملةُ بشحنةِ رمزية، إذ تغادرُ اللغة وظيفتها الأداتية، وتكون أكثر إيحائية في المقاطع التي يتحاور فيها البطلُ سعيد مهران مع الشيخ علي الجُنيدي، وذلك كون الأخير مُناقضًا في تركيبته الروحية للعالم الذي يهربُ منه سعيد، كما أن القيم الروحية التي يركنُ اليها الشيخُ لا يتجسدُ، إلا رمزًا. الأمر الذي يدعوك للتعامل مع شخصيات الرواية بوصفها تمثيلًا لقيم متباينة، كذلك عنصر المكان أيضًا تلفه غلالة رمزية. صراع مع القدر ينطلق زمن الرواية بخروج سعيد مهران من مُعتقله، ومن ثم يتضح الفاعل وراء الزج بسعيد إلى السجن لمدة أربع سنوات وهو صديقه عليش، الذي كان تابعًا له، لكن ذلك لا يمنعه من التآمر عليه مع زوجته؛ إذ يجدُ سعيدُ نفسه مُحاصرًا لايرى منفذًا للهروب، ويعجز من كسر الطوق خلال إحدى عملياته، وبعدما تنتهي سنوات السجن، يكون ما يسعى إليه هو استعادة ابنته (سناء) التي ترمزُ إلى المستقبل، غير أن سعيد يصطدمُ بإنكارها له على مرأى الجميع؛ ما يسقط بيده كل الحجة، ويكون وجه العالم أكثر قتامة؛ إذ أضيفت إلى خيانة عليش ونبوية تجاهل الابنة لشوق الأب، غير أن تصرف سناء مبرر؛ لأن الأخيرة قد نشأت دون رؤية ملامح سعيد، وما يتابعه القارىء من الجلسة التي تجمع أهالي حي عطفة الصيرفي، وما يتلفظ به المخبر من كلام، يشي بعدم الارتياح لسعيد، واستبطان المؤلف لما يدور بخلد الخارج من السجن يُمهدُ لاحتدام الصراع في مناخ الرواية، إذ تتفرع من حلقة الخيانة حلقة الانتقام والغضب على عالم لا يختلفُ كثيرًا عما عاشه السجين بين  جدران السجن الصماء، يَتَعَمقُ هذا الشعور لدى القارئ، عندما يلتقي سعيد بأستاذه رؤوف العلوان الذي كان يحثُه على الثورة، ويتسترُ على سرقته لأحد المُقيمين في بيت الطلبة، الأكثر من ذلك وفرَّ غطاءً فكريًا لغزوات سعيد اللصوصية، ولكن ابن عم مهران البواب يشعرُ بأنه صار مرميًا في العراء حين يعاين التحول من النقيض إلى النقيض في شخصية "رؤوف علوان" فالأخير قبل الثورة كان من أشدَّ الناقمين على الأغنياء ونمط حياتهم، بيد أن الصورة التي يظهر بها رؤف علوان في مرحلة ما بعد الثورة مغايرة تمامًا لما كان يحشو به رأس سعيد، حتى الموضوعات التي يتناولها في صحيفته الجديدة "الزهرة" لم تعد مُتطابقة مع النسق الفكري لشخصية المُنظر الثائر، هكذا يشحبُ الأملُ لدى سعيد، ولا يعذبه شيء أكثر من خيانة الفكر، وتنكر أستاذه لكل المبادئ؛ إذ يخاطبُ سعيد في حوار داخلي أستاذه السابق مقارنًا خيانته بفعلة زوجته مع صديقه عليش، حيثُ يُحملُ رؤوف علوان وزر خيانة كبرى؛ باعتباره صاحب الفكر، ولكن ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن، وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا. بينما كان المثقف يوظفُ عدته الفكرية للإلقاء بماضيه في غياهب النسيان، فإن سعيد يحجب ماضيه من استشفاف ملامح المُستقبل، فكل ما يأخذه من بيته هو ما تبقى من الكتب التي نصح بها طالب الحقوق الذي استهان بها لاحقًا. من هنا تسقط الأقنعة، وتُمحى الفواصل بالنسبة لسعيد بين رؤوف علوان وعليش ونبوية، فالأولُ تستر وراء الفكر، والثاني راهن على التملق والولاء، والثالثة كان سلاحها هو الجمال الظاهري، لذلك يستنطقُ المؤلف بطله بعبارة قريبة في عمق دلالتها من الحكمة الوليدة من رحم تجربة أليمة: لو أن الخيانة الكامنة ظهرت في صفحة الوجه، كما تظهر آثار الحميات الخبيثة، لما تجلى الجمال في غير موضعه. بعدما ينهار سنده الفكري المُتمثل في رؤوف علوان، لا يكون أمام سعيد غير خيار الانتقام؛ لاستعادة شيء من المعنى، وعندئذ تكتمل الأبعاد التراجيدية في شخصية سعيد مهران، وترجح كفة العبث في محاولاته للثأر من غرمائه، إذ كلما أراد تصويب الرصاصة إلى أعدائه؛ أردت بغيرهم: فيكون حسين شعبان بديلًا لعليش، كما أن البواب يلقى حتفه برصاصة سعيد عوضًا عن رؤوف علوان. مقابل هذا العالم الذي غزته الخيانة والغدر والكذب، هناك عالم آخر يجدُ فيه البطلُ مأوىً. هذا لا يعني أنه خال من التناقضات. الركن الروحاني بجانب مقهى عم طرزان وبيت المومس نور التي أهمل  سعيد نداءات قلبها من أجل الخائنة نبوية، يوجد ركن روحاني معبقُ بالهدوء يرتاده المريدون منشيدين الأذكار التي تنزع من القلوب القلق والتوتر، في مسكن الشيخ الصوفي علي الجُنيدي ينقطع المرءُ عن العالم الخارجي، وما قر في قاعه من النوازع الشريرة، عندما يتجه سعيد نحو هذا المسكن يجدُ بابه مفتوحًا كالعادة، والشيخ متربعًا في مكانه بكل ما عنده من الاطمئان والابتسامة علت على محياه النوراني ينصحُ سعيد بأنَّ يتوضأ ويقرأ. هنا أيضًا علينا أن ننصرف إلى المعنى المجازي لكلمتين، ويشكو سعيد للشيخ ما عاناه من الظلم والغدر، ويذكر تجاهل ابنته سناء له، فيردُ عليه الشيخُ بلغة رمزية يعجز عن فهمها سعيد؛ لأنه على حد قوله مقبل على النار. وعندما يسألُ سعيد الشيخ عن معنى مايقوله في لقاء آخر أجاب مؤسفًا: لم يكن أبوك ليغلق عليه قولي أبدًا. هكذا يعيشُ سعيد في الاغتراب الروحي بجانب اغترابه عن الواقع. فالمساحة التي يتحرك فيها تنحسرُ يومًا وراء اليوم، تتغيب نور؛ ما يحتم عليه مغادرة الشُقة، كذلك ينتشرُ المخبرون في محيط مقهى عم طرزان، كما يُجندُ رؤوف علوان صحيفته لبث كل المعلومات والصور عن تلميذه السابق، فبتالي تصبح الدروب مسدودة، إلا ما يوصله إلى مسكن الشيخ، يشار إلى أن غاية نجيب محفوظ في توصيف مكان إقامة الشيخ بالمسكن: هي أن يفرق بين هذا المكان وما يتميز به من الأجواء الهادئة عن أمكنة أخرى، تنهي الرواية بإغلاق الدائرة على سعيد وقتله، ما يلفت النظر في هذا العمل هو لغة رشيقة وطرح أسئلة ميتافيزيقية حمل المثقفين مسؤولية فساد العقول حالما يحيدون عن جادة مبادئهم، كما تتوزع في جنبات الرواية ثيمات متعددة. الخيانة والاستغراب والاستغلال، وما يسميه الجابري بشقاء الوعي، والعبث.

مشاركة :