السـرد البصري في 'حرب الكلب الثانية'

  • 7/2/2022
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تعد الرواية أبرز الفنون الأدبية الكتابية في تلقُّف مؤثرات الوسائط البصرية واستدماجها في نسيج البناء الروائي؛ لتحقيق تجريبٍ جماليٍ كفيلٍ باقتناص رهاناتِ اللحظة المعاصرة، ومنجزات الفنون البصرية، وتوجيه بوصلة الفن بما يحقق نزوع التجريب لدى الروائي العربي، فضلًا عن رغبته في تحقيق تفاعل جاد مع المتلقي الذي غدا متلقيًا بصريًا مسكونًا بالتقنية، ومتآلفًا مع فضاءاتها، ومنجزاتها، بل إنه أصبح محشورًا في مساربها، وسراديبها، فتحت له الفضاءات من ناحية، لكنها اختزلته وطوعته، وسلبته من ذاته، ومن محيطه من ناحية أخرى. انطلاقا من هذه الرؤية تأتي دراسة "السَّـرْدُ البَصَـرِيُّ.. تشكيل متخيل الديستوبيا" للناقد اليمني د.عبدالحميد الحسامي، والتي اتخذت من رواية "حرب الكلب الثانية" للروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصرالله نموذجا للتطبيق عليه. يرى الحسامي أن حرص الروائي العربي على الحضور في المشهد الروائي العالمي، والتفاعل مع تحولات اللحظة في المحيط العربي الذي يمور بتحولات تهز جذع التاريخ العربي، وتثير أسئلةً عميقة في وجدان الجيل المعاصر؛ وتلك التحولات المحلية لا يمكن أن تنفصم بحال من الأحوال عن مؤثراتٍ عالمية مباشِرة، أو مؤثرات غير مباشِرة في لحظة زمنية أصبح العالمُ فيها قريةً واحدةً. وبذلك تكون الرواية العربية قد حققت "سمة التفاعل مع مختلف أشكال التعبير والتواصل، والاستفادة منها في تشكيل عوالمها، فأثرت فيها، وهي تأثرت بها". ويضيفأن بعض الروائيين العرب عمدوا في هذا السياق إلى الانشغال بإنجاز أعمالٍ تراهنُ على التجريب، إذ تضم الروايات العربية "طيفًا كاملًا من الطموحات الشكلية، والتجديد في البناء"، وإنتاج خطابٍ روائيٍ جديدٍ، يعتمد على نوع من الإبهار، مستفيدين من معطَيَيْنِ مُهَمَّيْنِ هما: التطور العلمي في الهندسة الوراثية، وتقنيات الكمبيوتر، فأخذوا بعدد من التقنيات البصرية منها استلهام معطيات السينما؛ إذ "إن السينما تشكلت كخطاب عند تنظيمها في شكل سردي". وتوظيف منجزاتها في أعمالهم الروائية، ومنهم الروائي الفلسطيني: إبراهيم نصر الله، في روايته "حرب الكلب الثانية" التي كان للسينما أثرٌ جليٌ في تشكيل فضائها الروائي "الديستوبي"، بل نزعم أن المتلقىَ البصريَ كان له حضورٌ عميقٌ في هذا المنجز الروائي، وذلك يمنح البحث شرعية توجهه للكشف عن تفاصيل أثر السينما في العناصر الروائية، ومدى ما حققه من تحولٍ جماليٍ فيها؛ حيث غدا لدينا سردٌ يمكننا أن نَسِمَهُ بـ "السرد البصري"، ومن خلال الخطاب الروائي يمكن أن ننفذ إلى تجليات هذا التعالق بين الفنون فـ"مجال البناء النصي الأكثرُ حيوية لرصد التنافذ بين الأجناس الأدبية الذي اكتنف سمات النص الحديث، ذلك أن أنماط وأساليب التنافذ قد تشكلت في إطار المقاصد الكامنة وراء فعل الكتابة." ويقول الحسامي "حين نجعل من هذه الرواية مشغلة لهذا البحث، فإننا ننطلق في ذلك من إدراك لطبيعة الخطابين "السينما" و"الرواية" وما بينهما من علاقات تجاورٍ وتشابهٍ، فضلًا عن إدراكنا لطبيعة المتن المدروس، وخصوصية السؤال الذي يَهْجِسُ به، فرواية "حرب الكلب الثانية" رواية "ديستوبية" ترمحُ بنا إلى المستقبل؛ لتنذر من مآلات الحاضر، وتسبر عمق الإشكالات التي تكتنفه، وهذا الانشغال بالمستقبل سوَّغ للرواية أن تستند في عملية بنائها إلى معطيات السينما؛ لتتمكن من تمرير المنظور الروائي في بناءٍ مثيرٍ، ومدهشٍ، وغرائبيٍ قائمٍ على مُتَخَيَّلِ مستقبلٍ مخيفٍ يتشيأُ فيه الإنسان، وتتبدل فيه القيم، متخيلٍ تتقاطع فيه رؤية الفن بالأيديولوجيا، والسينما بالرواية، والماضي السحيق بالمستقبل المجهول؛ والواقعي بالفانتازي، إنه خطابٌ ينتمي إلى ثقافة العين ـ بحسب تعبير عبد السلام بنعبد العالي - من ناحية، وهو خطاب السؤال، لا خطاب الجواب - من ناحية أخرى - وخطاب السؤال خطاب حركة وانفتاح وطلب.. خطابٌ زمانه مفتوحٌ؛ لذا فهو خطاب المستقبل؛ "إن الأسئلة وحدها خالدة، أما الأجوبة فتضيع في ثنايا الزمن، وسرعان ما يبتلعها النسيان". ويرى أن هذا المتخيل ينزع نحو التجريب من خلال رفض النموذج الجمالي، والبحث عن نهج خاص، يعتمد على سلطة الخيال، ويتبنى قوانين التجاوز، وهو متخيل يقتضي أن تكتسي عناصره بمواصفات منتزعة من "مستقبل" قائم على تطور تقني "افتراضي" يتجاوز التقنية المعاصرة، وقد أسهم اللِّواذُ بالمعطى البصري السينمائي في تمكين الروائي من التقاط ما يروم إيصاله في هذا الخطاب الجمالي الأيديولوجي الذي لا يستطيع القارئُ الولوجَ إليه دون حساسيةٍ بصريةٍ تسْتَكْنِهُ ما وراء البناء اللغوي، وتتذوقه في هذا السياق. ويؤكد الحسامي أن دراسته تنطلق إلى الخطاب الروائي –رواية حرب الكلب الثانية - وتحاول جاهدةً تلمُّسَ أثر الوسائط الحديثة في تشكيله؛ ومدى إسهام العولمة الثقافية في توجهه نحو هذه الزاوية من التجريب، وكيف تمكنت من تأطير عالم الديستوبيا في الرواية؟ ومحاورة ذهن المتلقي؟ وهذا يعني أنها لن تذهب إلى النص الروائي (المُؤَفْلَم" - الذي تحول على يد مُخْرِجٍ ما إلى فيلم - ولن يكون هدفها قراءة أثر الاقتباس وطبيعته، وجماليته، فتلك أطروحة أخرى، لكن الدراسة تعمد إلى فرضية مفادها:أن النص الروائي العربي قد تخلَّقَ - في بعض نماذجه التجريبية - تحت تأثير المعطى البصري، وهيمنة سلطته؛ بشكل مباشر، أو غير مباشر؛ فعكس هذا التأثير نفسه على عناصر السرد؛ فأصبح بإمكاننا أن نسمِّيَهُ سردًا بصريًا. وحول اختياره رواية "حرب الكلب الثانية" لتكون عينة للقراءة؛ لأنها نموذج حيٌ زعيمٌ بتمثيل أطروحة البحث؛ وتقديم قراءة نابعة من طبيعة الرواية؛ وليست مفروضة عليها من خارجها قسرًا؛ لأنها رواية كتبت في ظل وعيٍ بصريٍ مهيمنٍ، يدركه القارئ الناقد حين يتأمل أحداثها، ويغوص في تفاصيلها، إنها عينة روائية يشغلها المستقبل، ويقلقها مآل الإنسان العربي في ضوء مقدمات لا تبشر بخير.ونزعم أن هذا المدخل يعدُّ المدخل المناسب لقراءة الرواية؛ إذ يشكل العنصرَ المهيمنَ فيها، والخصوصية المستحكمة في رؤيتها، وفي بنيتها، ومن خلاله يمكن تقديم قراءة تلامس هواجس هذا الخطاب الروائي الجمالية والرؤيوية. وأوضح أن الدراسة سعت إلى تفحُّص الظاهرة متوسلةً بمعطيات المنهج السيميائي- في جوهر أطروحاته- الذي تمليه طبيعة المتن المدروس، فهو أغنى وأقنى في تتبع العلامات، وسيرورتها في نسيج الخطاب الروائي وعلاقاته، والكشف عن دلالاتها، وتواشجها مع الفنون البصرية؛ إنها رحلة داخل "غابة السرد"، اقتادتنا إليها إشارات خاصة في الرواية، وهي بالطبع إشارات ملتبسة - بحسب إيكو - إلا أنها تقوم بدور مهم في توجيه حركة التجوال في تلك الغابة، وتكفل عدم الضياع في متاهاتها.وبذلك فإن الدراسة تنتزع أهميتها من عدد من الأمور، أهمها أنها: أولا تقدم قراءة بينية تعتمد على الانفتاح والتعددية، ومد جسور التواصل بين الفنون، وهي بذلك تسهم في رفد الدراسات البينية بقراءة متعمقة في الرواية العربية من خلال هذا النموذج الدال. ثانيا تسعى إلى قراءة زاوية مهمة، وقضية مركزية من قضايا الرواية العربية في بعديها: الذاتي، والموضوعي؛ يتمثل الذاتي في السؤال الجمالي للرواية، ويتمثل الموضوعي في السؤال الاجتماعي للرواية، وعلاقتها بقضايا المجتمع؛ إذ إنها تناوش المتخيَّلَ الاجتماعي، وتحاول أن تصوغ سؤالَ اللحظة من خلال صياغة متخيل للمستقبل. ثالثا تحاول تقديم دراسة تطبيقية لخطاب روائي يمثل تداخل الأجناس الفنية، وترافدها، ويمثل في الوقت نفسه علاقة الكاتب العربي بمحيطه: عربيًا وعالميًا. رابعا تحرص على قراءة عمل يمثل شتلةً مهمةً في التجريب الروائي العربي، من خلال إسهامه في إنتاج رؤية للمستقبل تنهض على متخيل ديستوبي مخيف لمستقبل العرب، متخيل يقترب من أسئلة الحياة، وأسئلة الإنسان العربي، ويقدم رسالة تحذير ضمنية من مآلات متوقعة إن واصلنا السير في هذا الطريق. رابعا تعمل على تخصيب النقد الروائي بالمتجدد من الرؤى التي تستدرجه لاقتحام مناطق جديدة، ومناوشة أسئلةٍ أَجَدّ من خلال هذا المنحى "السرد البصري" في المنجز الروائي الديستوبي، الذي يمكن أن يفتح نوافذ على عوالم في روايات عربية، أو في فنون كتابية مختلفة. يؤكد الحسامي أو رواية "حرب الكلب الثانية" استطاعت أن تقدم تأويلًا خاصًا للمستقبل، مواكِبةً تحولات الرواية في الفضائين: العربي والعالمي، في الاتجاه نحو ترهين المستقبل، ورسم صورة مخيفة له، محملة برؤية سياسية وأيديولوجيا تلتزم هموم المجتمع، وتناضل من أجل مستقبله؛ من خلال صوت "النذير" كي لا تمتد إلى المستقبل أوبئة الحاضر. على الرغم من انشغال الرواية بالأيديولوجي تمكنت من تحقيق تحول جمالي من خلال توظيف تحولات التقنية، واستلهام معطيات الفنون البصرية، ولا سيما السينما، واستطاعت تقديم نموذج حي لتلاقح الفن الروائي بالفنون البصرية، وانفتاحه عليها، وتفاعله معها؛ إذ تمثل الرواية أنموذجًا للسرد البصري، وذلك يسوغ تحويلها لفلم سينمائي يعزز هذا التفاعل، وهي بذلك تمارس الرفض المزدوج: على مستوى البنية الداخلية للرواية، وعلى مستوى رؤية العالم الموضوعي. ويشير إلى الرواية مثلت دعوة ضمنية للمشهد الروائي العربي للالتزام بهموم الأمة، والانشغال بمستقبلها، وإذا كان الروائيون في عقود تصرمت قد واجهوا الشر السلطوي بتصوير الواقع ونقده، أو برسم عالم يوتوبي ناعم وجميل تعويضًا عن تشوهات الحاضر، فإن هذه الرواية قد واجهت ذلك الشر من خلال رسم عالم ديستوبي شائهٍ ومظلم. كما استطاعت خلق مرجعي مفارق فهو مستقبلي إيهامي، للاتكاء عليه في تخييل العالم الروائي، وهي في ذلك تقوم بتخييل مركب؛ فالواقع الذي تستند إليه، وتنتزع منه مادة حياتها، واقعٌ لم يأت، لكن الرواية عالجته بوصفه قد أتى، وجعلت المرجعيَّ الراهنَ مرجعيًا ماضويًا، تحيل إليه، بوصفه ذاكرة لم يبقَ منها سوى وشْمِهَا. كما قدمت الرسالة الاجتماعية الإنسانية في إهاب جمالي ذي غواية سردية تشتبك فيها الرؤية الأيديولوجية، بالدهشة الجمالية، وتنضفر معها دون انفصام. ويلفت الحسامي إلى أن العتبات الروائية تعد دالة على هيمنة النزعة البصرية على النص الروائي وهو يتشكل مخضبًا بأثر السينما، من خلال العنونة التي تستوحي قصة الإنسان العربي الممتدة في الحرب والثأر، ممثلة بحرب الكلب الثانية، وهذه التسمية كانت ملائمة للقضية المحورية التي تدور حولها الرواية، وأسهمت في تبيئة هذا المنزع الروائي العالمي من خلال استمداد تفاصيله من واقع عربيٍ؛ لمعالجة قضية عربية محضة. ويخلص قائلا "تلبست عناصر الرواية، من حدث وشخصيات، وزمان ومكان ولغة، بخصائص الفنون البصرية، وتمكنت من التداخل والتخارج مع تلك الخصائص، لتحقيق تجاوز جمالي، لا يتخلص من خصائص الرواية، ولا يستسلم للنموذج، ويستلهم من السينما وأفلام الخيال العلمي، والطفرات التقنية السماتِ الممكنةَ في تخصيب الخطاب الروائي. وقد تجلى من خلال القراءة مدى التواصل بين عالم الرواية، والقارئ، فهي رواية تصنع قارئًا بصريًا من شأنه أن يتلقى الخطاب الروائي في هذا الأفق البصري.

مشاركة :