(اليوم، تخلصنا من لواء فكري مسلّح، فغسان كنفاني كان بقلمه أكثر خطرا على إسرائيل من ألف فدائي مسلّح)، كان ذلك تعقيب رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك جولدا مائير على اغتيال «الموساد» الإسرائيلي للمفكّر القائد الشهيد الفلسطيني المبدع غسان كنفاني، ويحمل هذا التعقيب الأسباب التي قضت بأن تقرر دولة الاحتلال الصهيوني القيام بعملية الاغتيال، ذلك أنّ الأمر تجاوز الأسباب المنظورة والظاهرة، إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فقد قام الموساد الاسرائيلي باغتيال كنفاني في الثامن من يوليو عام 1972 في العاصمة اللبنانية بيروت إثر انفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارته. من الصحيح أن قلم غسان كنفاني وريشته وإبداعه الأدبي والفني والصحفي، شكّل في واقع الأمر برنامجا ثقافيا للثورة الفلسطينية من خلال 18 كتابا بين رواية وقصة وبحث إضافة إلى المقالات والملصقات والرسوم، أعماله تمت ترجمة معظمها إلى معظم لغات الأرض وتحوّل بعضها إلى أفلام سينمائية وعروض مسرحيّة، كل هذه الأعمال أسهمت في صياغة أوليّة للمشروع الثقافي الفلسطيني الذي حمل لواءه غسان كنفاني ولا يزال مشرعا لعقود إلى ما بعد اغتياله وفي المستقبل الوطني الفلسطيني. هذا المشروع كان يتطلب برنامجا سياسيا موازيا للمشروع الثقافي الذي وضع أسسه غسان كنفاني، وجاء ذلك عندما صاغ الاستراتيجية السياسية والبيان السياسي للجبهة الشعبيّة، مُؤكدا أهمية الكفاح المسلح والعمل الفدائي، ويُلاحظ في صياغة الاستراتيجيّة السياسيّة للجبهة أنّها تأثرت بقناعاته حول سبب فشل ثورة 1936. ذلك أننا نلاحظ في الكتيّب الذي أصدره غسان كنفاني عن هذه الثورة قبل أشهر قليلة من اغتياله أنّه أرجع فشلها إلى ما يُسمى «المثلث المُعادي» القيادات الرجعية المحليّة وبعض الأنظمة العربية القائمة آنذاك والحلف الإمبريالي _ الصهيوني، وقد عكس هذه القناعات في سياق البرنامج السياسي للجبهة تحت فصل (من هم أعداؤنا؟). هذا الدور الثقافي - السياسي لغسان كنفاني ، كان كافيا بالتأكيد لأن تتخذ جولدا مائير شخصيا قرار اغتياله وكلّفت «الموساد» بذلك، لكن في هذا السياق علينا أن نلحظ أنّ هناك مبررات إضافيّة ذات طبيعة أمنيّة بامتياز جعلت غسان كنفاني هدفا لهذا الاغتيال، ذلك أنّ مجلة الهدف التي كان يترأس تحريرها، في مقر معلن وواضح وبيافطة مع رقم هاتف شكّلت في واقع الأمر مركزا وغرفة اتصالات علنيّة مع كل حركات التحرّر وثورات الشعوب على مستوى العالم. فهذه الحركات والثورات وجدت في مقر المجلة وهاتفها المعلن ورئيس تحريرها الناطق بعدّة لغات وسيلة اتصال بالثورة الفلسطينيّة والجبهة الشعبيّة تحديدا في فترة لم تكن الاتصالات سهلة نظرا إلى المقرات ذات الطبيعة السريّة للجبهة الشعبيّة وعموم فصائل الثورة، لذلك لعب غسان كنفاني في تلك الفترة صلة الوصل وكان جسرا لابد منه للتواصل مع حركة الثورة العالمية في إيطاليا واليابان والمنظمات والحركات الثوريّة في أمريكا اللاتينية، ولتأكيد أهمية هذا الدور في قرار اغتياله أنّ غسان كان ناطقا رسميا للجبهة من بيروت عندما أقدمت على إجبار ثلاث طائرات على الهبوط في صحراء الزرقاء في الأردن في سبتمبر 1970، تم من خلالها إطلاق سراح أربعة أسرى من سجون الاحتلال على رأسهم الفدائيّة المناضلة ليلى خالد. وللتأكيد مجددا على الدور الأمني في أسباب الاغتيال أنّ خليفته في رئاسة التحرير بسام أبو شريف تعرّض أيضا لمُحاولة اغتيال من خلال ظرفٍ بريدي في مكتبه في مجلة الهدف بعد أشهر قليلة من اغتيال غسان كنفاني. تقول صافيناز كاظم الكاتبة والناقدة المصريّة، إنّها سمعت بمصطلح «شعراء الأرض المحتلة» للمرّة الأولى عندما التقت بغسان كنفاني في مؤتمر بالعاصمة اللبنانيّة مطلع عام 1967 واستمعت لحديثه عن محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وتبادله الرسائل مع البعض منهم. كتاب غسان كنفاني المعنون «شعراء الأرض المحتلة» لم يتوقّف عند التعريف بهم على صفحات الجرائد والصحف الصادرة في لبنان خاصة مجلة الهدف، لكن أوجد صيغة لوحدة المشروع الثقافي الفلسطيني بين أرض 1948 وعموم الشتات الفلسطيني، غسان كنفاني هو الذي قام بتغيير المصطلح الذي كان شائعا آنذاك «أدب النكبة» إلى «أدب المقاومة». هذا الدور الشامل السياسي والأمني والثقافي كان باعتقادنا وراء قرار اغتيال المفكر والروائي الشهيد القائد غسان كنفاني أحد أبرز رموز الثقافة الفلسطينية. { كاتب من فلسطين
مشاركة :