تفاوضت الولايات المتحدة بشكل غير مباشر مع حركة «طالبان» بدءاً من العام 2011، وبعد عامين سمحت بافتتاح مكتب تمثيل للحركة في الدوحة. كان ذلك بعد شهرين ونيّف من وفاة الملا عمر وشكّل إشارة إلى أن «طالبان» ما بعد كبير مؤسسيها تتداول بجدّية فكرة التفاوض مع الأميركيين، وهو ما كان يلقى معارضةً من خلفه الملا أختر منصور، الذي قُتل عام 2015 بطائرة مسيّرة إثر اجتيازه الحدود من إيران إلى باكستان. اختير بعده في 2016 الملا هيبة الله اخوند زاده، المعروف بأن «قاضي الشرع في الحركة» ولم يكن عسكرياً كسَلَفَيه. استمرّت الاتصالات التمهيدية متقطعةً طوال خمسة أعوام، إلى أن بدأت المفاوضات رسميّاً في 2018 وتقطعت أيضاً مرّات عدة بسبب استمرار استهداف الجنود الأميركيين، لكن الاتفاق كان جاهزاً أواخر 2019 وكاد الرئيس دونالد ترامب يدعو وفد «طالبان» إلى البيت الأبيض لولا معارضة داخلية ناشطة، إلى وقّع الاتفاق في 29 فيراير 2020. لم يُعلَن نصّ الاتفاق، ومع ذلك لم يكن سرّاً أن نقطة توافق الطرفين هي الانسحاب الأميركي، كلٌّ من وجهة نظره وبشروطه. ورغم إصرار دؤوب من الجانب الأميركي على وقفٍ شامل لإطلاق النار والعمليات القتالية، كإنجاز يمهّد للانسحاب، إلا أن «طالبان» رفضت بعناد. كادت المفاوضات تخفق وتتوقّف، لكن الحركة أبدت براغماتية فقدّمت «تنازلَين»: تعهّد عدم السماح بأن تعود أفغانستان «ملاذاً آمناً» لمجموعات إرهابية («القاعدة»، «داعش»...)، موافقة مبدئية على التفاوض مع الحكومية الأفغانية في شأن مستقبل النظام والحكم من دون التزام أفكار أو ضمانات محدّدة. وهكذا أتيح للأميركيين القول إنهم ينسحبون بعدما حقّقوا هدفَين: ضرب الإرهاب الدولي وإضعافه، وربط استقرار أفغانستان بتسوية سياسية داخلية. من الواضح أن الاتفاق لا يمنع «طالبان» من التحرّك للاستيلاء على مناطق لم تكن تحت سيطرتها، وقد فعلت من دون أي استياء أو انتقاد أميركي، ما أطلق سيلاً من التساؤلات لدى حكومة كابول والحلفاء الأطلسيين والأطراف الإقليمية وحتى في واشنطن: هل أن الانسحاب الأميركي ينهي الحرب الأفغانية أم يشيع الفوضى ويشعل حروباً أهلية؟ هل من تفاهمات سرّية بين الأميركيين و«طالبان» خارج نصّ الاتفاق؟ لماذا تبدو واشنطن كأنها تخلّت عن حكومة كابول ولا تمانع استعادة الحركة سيطرتها على أفغانستان؟ لكن، هل تغيّرت «طالبان» عما كانت عليه عام 2001 عندما صنّفت منظمة إرهابية وأُسقِط نظامها، وهل تخلّت عن عقيدتها وممارساتها المتزمّتة في الحكم؟.. هناك، واقعياً، شيء من التغيير ظهر خلال التفاوض، ثم في ما بدا أخيراً من تقارب بين «طالبان» وفئات أخرى كالأوزبك والطاجيك والتركمان، بعدما كان نطاق النفوذ والتجنيد لديها يقتصر على البشتون. لكن أي تغيير مفترض به إدراك أخطائها السابقة واستيعاب تجربة العقدين الماضيين، سيبقى تحت الاختبار، خصوصاً أن نمط التوسّع الذي تتبعه حالياً لا يختلف شكلاً وتطبيقاً عن نهجها عام 1996. كما أن رفضها أي تفاوض جدّي مع حكومة كابول ينطوي على رغبة في تغيير النظام «الجمهوري» للعودة إلى مشروع «الإمارة الإسلامية». في المقابل، لا شك أن تحدّيات كثيرة تنتظر «طالبان» فأفغانستان التي تستعيدها تغيّرت بدورها، وهناك ثلاثمئة ألف عسكري أعدّهم الأميركيون وسلّحوهم ومئات آلاف الموظّفين الذين أعيد تأهيلهم، ولا تستطيع أن تتجاهلهم في إدارة الدولة.
مشاركة :