نادراً ما ينظر كُتاب الرأي ومنتجو المعرفة عموماً من الباحثين والأكاديميين والمدونين..الخ.. لأنفسهم على أنهم قد يكونون جزءاً من المشكلة، بقدر ما يتصورون أنفسهم في الغالب جزءًا من الحل. ولهذا فقد ترددت ولنفس السبب على اجتراح تجربة أن يكون (الموضوع الاجتماعي) لهذا المقال هو تحديداً مُساءلة حالة «كتابة الرأي» في اللحظة الراهنة في ضوء متابعتي لمدها وجزرها من خلال الملاحظة بالمعايشة الدائمة وليست «الأدواتية « فقط على مدى عقود وإلى اليوم. وإن كان قد سبقني لمثل هذه التجربة، أي الكتابة عن الكتابة، الكثيرون سواء في أفق الكتابة الغربية أو في أفق الكتابة العربية. بما شكل تراثا معرفيا لم يكف يوما عن التراكم الجدلي بما تراوح ويتراوح من الطروحات البسيطة كهذا المقال إلى الطروحات المعمقة في تجارب إبيستمولوجية معرفية متعددة ومركبة سواء في دراسة الكتابة كماهية أو كمهنة من سقراط لدريدا وما بينهما من فلاسفة ومفكرين وباحثين في اللسانيات والسيسيولوجيا والإنثروبولجيا. فالكتابة وإن لم ينظر أصحابها لأنفسهم كجزء من المشكلة هي بطبيعتها عمل إشكالي بكل معنى الكلمة في مساحاتها وأشكالها المتعددة وفي تداخلاتها مع الإبداع والثقافة والصحافة والفكر والفكر النقدي ومع السياسي والاجتماعي والتاريخي ومع العمل البحثي في العلوم الإنسانية بل والعلوم الطبيعية. ولهذا كانت الكتابة كفعل للتعبير عن الرأي موضع اهتمام حقوقي وقانوني عالمي من خلال إنشاء مادة خاصة بالتعبير عن الرأي في المادة (18) من ميثاق حقوق الإنسان في الأمم المتحدة الذي وقع عليه معظم الدول الأعضاء بما فيها بطبيعة الحال المملكة. ومن هنا أيضا لم يغفل النظام الأساسي للحكم عندنا في المادة (39) من الباب الخامس للحقوق والواجبات دور الكلمة المكتوبة في وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير في الإسهام في «تثقيف الأمة ودعم وحدتها...» والمتوقع المستقبلي تأصيلا وتجديا أكبر لهذه المادة بإذن الله. **** والواقع أن موضوع الكتابة عن الكتابة وإن تعددت أبعاده واتسعت آفاقه فإنني أقصر تناولي له كما أشرت أعلاه على بعد محدد منه والمتمثل في الكتابة المتسائلة والمُسائلة عن حالة كتابة الرأي عندنا في هذا اللحظة. ففي خضم التحولات الكبرى أو الصغرى التي تمر بها المجتمعات عادة والتي نمر بها اليوم مجتمعا ودولة بنصيب كبير من المتغيرات الاجتماعية الإيجابية المُعَرفة عادة في أدبيات علم الاجتماع والسياسة بالاستحقاقات الضرورية للتنمية، في الوقت الذي لايزال أمامنا عدد من مهام التحولات لاستيفاء شروط التحول النوعي في بنية المجتمع وعلاقاته على المستوى الداخلي، فيما يجري ذلك مع الأسف وسط محيط من التحديات السياسية والجغرافية والعسكرية الخارجية والمتمثلة في محيط عربي مضطرب وفي محيط إقليمي معاد يبدأ من النظام الطائفي الإيراني العدواني ويمر بالأطماع التركية ولا ينتهي عند الاحتلال العنصري الإسرائيلي بل يمتد لمواجهة شبكة معقدة من الرؤوس الدولية الكبرى، لا يستطيع المنتمون للكتابة إلا التساؤل وإن في أنفسهم عن حال كتابة الرأي ومسؤوليتها المعرفية والثقافية والوطنية أمام تحدي التحولات الداخلي وأمام تحديات دوائر المحيط العربي والإقلمي والعالمي. ويكون هذا المقال قد حظي بريشة من أجنحة المحاولة لو استطاع تحويل الهاجس المهموس في النفس إلى قاسم مشترك منطوق أو مكتوب يجري التفكير فيه بصوت مسموع. وبما أن ما لا يدرك كله لا يترك جله فلا بد على الأقل من تناول ولو جزئية صغيرة ومبسطة من موضوع شاسع ومتعدد الأبعاد. **** وفي هذا أعتقد دون أن أجزم أو أعمم أن منسوب تناول كُتاب الرأي للقضايا العامة وعلى وجه التحديد الهموم اليومية التي تشغل عموم المواطن والقضايا الكبيرة التي تشغل الرأي العام والمثقفين وصناع السياسات على مستوى داخلي وعربي قد انخفض في الآونة الأخيرة تدريجياً حتى كاد أن يخفت إن لم يخمد الصوت المعبر عن تلك المشاغل ببعديها في صحفنا المحلية، والتي كانت عبر تاريخ طويل وإن بسمتها الرسمية هي المنصة والمنبر الوحيد لإلقاء الضوء على تلك الهموم والمشاغل ولتقديم عينة متنوعة من الاجتهادات في حلها أو تقديم مقترحات لمعالجتها كشكل رمزي جداً وصغيرة جداً من المشاركة المجتمعية في الشأن العام. وقد كانت تلك الكتابات تعتبر في عُرف المجتمع وفي عُرف أصحابها مَعبَرا معترفا به لإيصال هذا الشأن أو ذاك من شئون وشجون المواطنين كافة بمختلف مواقعهم على السلم الاجتماعي أو المناطقي أو المذهبي إلى صاحب القرار الأعلى أو أصحاب القرار في الوزارات والمؤسسات الحكومية أو الأهلية ومن في حكمهم، رغم تراوح السجال حينها بين الكاتب والرقباء، بما كان يسمى «بحس ساخر» (أصحاب القلم وأصحاب المقص). ورغم محافظة الواقع الشديدة وقتها سياسيا واجتماعيا وقيميا ومواقف دينية، وميله للتشدد نحو الكثير من الأمور بما كان يجعل من سقف الصحافة عرضة دائمة وجبهة عاصفة للشد والجذب والمد والجزر، إلا أن ذلك للشاهد العيان لم يؤد قط للتفريط في شعرة معاوية، إلا في أقسى فترات الانغلاق. **** وهنا تثور الأسئلة ويخطر على البال عدة أسباب لما نراه اليوم من تفريط كُتاب الرأي في دورهم التاريخي والطليعي معا وفي مسؤوليتهم الجسيمة تجاه التعبير عن صوت المواطن كما كان الأمر وكما عهدنا منهم من قبل دون عهد إلا عهد أمانة الكلمة الغليظ، رغم المحاذير سابقاً والمد والجزر المشار إليه أعلاه. (هذا دون أن يشمل تساؤلي هنا أولئك الذين انسحبوا بمحض إرادتهم بدافع شخصي في الانقلاب على مواقف نقدية سابقة إما لحسابات خاصة أو حيث أدركتهم حرفة غير حرفة الأدب والكتابة). **** تنويه ههم: ونظراً لطبيعة الموضوع الشائكة فإنني مضطرة أن أترك معالجة أسئلته للأسبوع القادم مع ملاحظة هامة وهي أن هذا الموضوع تم طرحه الشهر الماضي من هذا العام بمبادرة من د.عبدالله الحمود عبر المنبر الإلكتروني لمنتدى آصرة الثقافي، وقد حظيت أطروحته بمداخلات معمقة لعدد من الزميلات والزملاء من متخصصين ومشتغلين بالسؤال الثقافي، كما قدمت فيه الزميلة العزيزة أ.فايزة العجروش استخلاصاً لعدد حيوي من التوصيات التي قد تهم المجتمع ككل والمجتمع الثقافي تحديداً وصناع القرار والسياسات فيه. وهذا مما سأختم به الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا المقال المعني بتحميل كتاب الرأي مسؤوليتهم والمطالبة بتمكينهم لتحمل مسؤولية الكلمة وأمانتها بشفافية وإخلاص.
مشاركة :