أطلق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان آل سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، وذلك في الثلاثين من يونيو 2021، معلنا «أن هذه الاستراتيجية ستسهم في تعزيز القدرات البشرية والفنية في قطاع النقل والخدمات اللوجستية بالمملكة، والارتباط بالاقتصاد العالمي، وتمكن البلاد من استثمار موقعها الجغرافي الذي يتوسط القارات الثلاث في تنويع اقتصادها»، ولأهمية هذه الاستراتيجية في تحقيق التنمية المستدامة في هذا القطاع وتأثيرها المأمول على مختلف مناحي الاقتصاد الوطني السعودي، سنقدم عرضا لمضامينها الرئيسية من خلال عدد من المقالات، ابتداء بالتأصيل النظري للقطاع اللوجستي، حيث تعرف اللوجستية Logistics بالعربية بأنها فَن السَّوْقِيَّات، وهي فن وعلم إدارة تدفق الإمداد (السلع، الطاقة، المعلومات، الموارد البشرية وغيرها) من منطقة الإنتاج إلى السوق. وقد عرفها مجلس إدارة اللوجستيات في الولايات المتحدة الأمريكية (منظمة تجارية) عام 1991 بأنها «عملية التخطيط والتنفيذ والتحكم بالتدفق والتخزين للسلع والخدمات والمعلومات من المنشأ إلى منطقة الاستهلاك خدمة للمستهلك. كما عرفت بأنها تخطيط وتنظيم وتحكم في كل عمليات الترحيل والتخزين التي تسهل تدفق السلع من نقاط المواد الخام حتى المستهلك النهائي مع عمليات تدفق المعلومات المصاحبة لذلك، من أجل تأمين مستوى خدمة مناسب للمستهلك وتحقيق عوائد مناسبة للشركة تتسق مع النفقات المحتملة لمقاومة عقبات الزمان والمكان ومتطلباتهما. وما ينبغي ذكره أن أول ظهور لمفهوم الخدمات اللوجستية كان في القطاع العسكري، لذا عرفها قاموس أكسفورد بأنها فرع من العلوم العسكرية تختص بتدبير ونقل والحفاظ على الذخائر والأفراد والمواد ووسائط النقل، وقد ظهر أول استخدام للمصطلح في الجيش الفرنسي عام 1905 إذ اهتم بقطاع الخدمات اللوجستية وسعى إلى تطويرها بهدف تأمين وصول المؤن والذخائر والأسلحة في الوقت المناسب، وبأفضل الطرق الممكنة وأقصرها. وفي الحرب العالمية الثانية اهتم الحلفاء بهذا القطاع وكان أحد العوامل التي أسهمت في تحقيقهم النصر. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ظهرت دراسات علمية عديدة هدفت إلى تطبيق الخدمات اللوجستية في قطاع الأعمال Business Logistics، واتضح منها أن نسبة 40% من تكاليف إنتاج سلعة ما، في الدول المتقدمة ناجمة عن الأنشطة اللوجستية. ولما كانت أغلب الشركات في الدول المتقدمة تستخدم تقنيات إنتاجية متشابهة، أصبح من غير الممكن تحقيق الميزة التنافسية أو تعزيزها إلا من خلال خفض كلفة الخدمات اللوجستية والتي تتضمن الأنشطة الداعمة للعملية الإنتاجية سواء السابقة للإنتاج مثل شراء المواد الأولية، ونقلها، وتخزينها، والتأمين عليها، والقيام بالعمليات البنكية اللازمة لها أو الأنشطة التي تتم أثناء عملية الإنتاج كعمليات المناولة الداخلية أو العمليات التي تتم بعد الانتهاء من الإنتاج وتتمثل في التعبئة والتغليف والترويج والتخزين والنقل والتأمين وخدمات ما بعد البيع. وتتميز الخدمات اللوجستية بأنها تتم على نحو تكاملي للاستفادة من اقتصاديات الحجم Economics of Scale وتتم في إطار نظم المعلومات. وقد أصبحت الخدمات اللوجستية تشكل أهمية كبيرة ومتزايدة بالنسبة إلى العديد من منظمات الأعمال والدول، باعتبارها عملية أساسية تؤدي إلى تحقيق قيمة مضافة للسلع والخدمات، وعندما أيقنت هذه الدول والمنظمات أن الطريق نحو تدعيم المركز التنافسي وتحقيق الميزة التنافسية وزيادة الأرباح يبدأ من خدمة العملاء، وخفض التكاليف، بدأت في تطبيق قواعد الإدارة اللوجستية، وعموما ينبع الاهتمام المتزايد بالخدمات اللوجستية من عوامل عديدة منها: طول خطوط الإمداد والتوزيع بفعل الانفتاح الاقتصادي العالمي، وارتفاع تكاليف الخدمات اللوجستية كنسبة من إجمالي تكاليف منظمات الأعمال، واعتبارات خاصة باستراتيجيات التمايز للشركات، وتزايد رغبة العملاء في الحصول على استجابة مناسبة وسريعة في توفير طلبياتهم من السلع والمعلومات، كما أن الخدمات اللوجستية تضيف قيمة مضافة اعتبارية لدى العملاء. وفي ظل التطورات التقنية التي يشهدها العالم وانتشار التجارة الإلكترونية، تعاظمت أهمية الخدمات اللوجستية خاصة الخدمات التقنية المرتبطة بالاتصالات وخدمات الدفع وتحويل الأموال وخدمات التوصيل وغيرها. وعلى صعيد التجارب التنموية لعبت الخدمات اللوجستية دورا مهمًّا في تحقيق التنمية لعديد من دول العالم على الرغم من تواضع مقوماتها التنموية الأخرى، فمثلا كانت سنغافورة دولة منخفضة الدخل، ومحدودة الموارد، تفتقد العديد من أساسيات البنية التحتية والاستثمارات وفرص العمل، إلا أن ذلك تغير كليا بعد أن ركزت في تنميتها على توفير أفضل متطلبات الخدمات اللوجستية في مينائها، وبعد عقود قليلة، أصبحت سنغافورة واحدة من أغنى بلدان آسيا، نتيجة لاحتضانها أكبر ميناء للحاويات العابرة في العالم إذ يرتبط بأكثر من (600) ميناء حول العالم. وقد تمكنت إدارة الميناء من بناء واحدة من أكثر شبكات النقل البحري كثافة في العالم، وأبرمت عديدا من اتفاقيات التجارة الحرة مع أكثر من (30) شريكا تجاريا لتعزيز سبل دخولها إلى الأسواق الرئيسية، ما حفز الشركات في سائر سلسلة الخدمات اللوجستية على العمل من سنغافورة، إذ إنه من خلال شبكات الربط مع شركائها التجاريين تستطيع الوصول إلى الأسواق العالمية سريعا بأقل كلفة ممكنة وبخدمات تنافسية عالية. وما ساعد سنغافورة على النجاح، ريادتها في الجمع بين مجموعة عناصر هي: شبكات الربط مع أغلب موانئ العالم، والبنية التحتية العالمية المستوى، وبساطة ودقة وسرعة الإجراءات، ومشاركة القطاع الخاص في القرارات الاستثمارية، وهذه العناصر تمثل منظومة متكاملة لتفوق ونجاح الخدمات والمناطق اللوجستية. وعلى صعيد المملكة العربية السعودية، يحتل قطاع النقل والخدمات اللوجستية مرتبة متقدمة في أولويات رؤية المملكة 2030 لدوره الحيوي في التنمية المستدامة بالمملكة، ولطبيعة وموقع المملكة الاستراتيجي ومساحتها الواسعة، وتنوع تضاريسها الجغرافية، فضلا عن ضرورة تطوير هذا القطاع لينسجم مع التطورات المتسارعة في قطاعاتها الاقتصادية المتعددة، ولا سيما في المجالات التقنية والتجارة الإلكترونية والقطاع المالي والمصرفي، وسعيها نحو تحقيق التنوع الاقتصادي بما يجعل منه دعامة أساسية للنهوض والانطلاق الاقتصادي. { أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :