السخرية تلاحق الفاسدين في بردية عمرها 5 آلاف سنة

  • 10/14/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يعرف المصريون بأنهم أولاد نكتة، فالنكتة حاضرة دوماً في مفرداتهم اليومية، صناعة وتداولاً، يستخدمونها لمجرد الضحك، أو للسخرية من السلطة، أو النيل من واقع قد لا يقدرون على مواجهته مباشرة. ويبدو أن ذلك ليس أمراً طارئاً على حياة المصريين، فقدماؤهم كانوا أول شعوب الأرض الذين جعلوا للضحك عيداً، وللنكتة معبوداً، وللمرح أوقاتاً، مثلما كانوا الشعب الوحيد الذي سجل النكتة بالرسم الساخر على جدران المعابد وفي البرديات. ووفق الصحفي المصري الراحل أخيراً شفيق أحمد علي في كتابه تحت الطبع النكتة في زمن الفراعنة، احتلت الفكاهة عند المصريين القدماء مكانة مميزة. ويقول شفيق أحمد علي في الكتاب الذي تنشرالخليج مقتطفات منه: إنه لهذا قدس الفراعنة القطة باستت إلهة المرح، والقزم بس إله الفكاهة، وقالوا على لسان أحد حكمائهم: كوخ تسعد فيه وتضحك، خير من قصر تشقى فيه وتبكي في متحف البرديات بلندن، بردية مصرية شهيرة عليها لوحة كاريكاتورية رمزية نادرة، عمرها خمسة آلاف وثلاثمائة عام بالضبط، أي قبل اكتشاف أمريكا عام 1492، بأكثر من أربعة آلاف وخمسمائة عام تقريباً، هذه البردية البديعة تصور جلد الفرعون الفاسد والمستبد بكرباج النكتة. ويقول عالم المصريات الدكتور سليم حسن، في موسوعته المهمة للغاية التي صدرت طبعتها الأولى عام 1950 بعنوان مصر القديمة: لا أحد عند الفراعنة فوق النقد، حتى الفرعون نفسه لم يفلت من يد الفنان المصري القديم. نعم، حتى الفرعون لم يكن معصوماً من النكتة، بل ورسمه الفنان وقتها في صور هزلية ساخرة ما زالت منقوشة على جدران المعابد وفي البرديات حتى الآن، وتدل على النقد والسخرية حتى من الفرعون، وقال الدكتور سليم حسن، أيضاً: لا غرابة في ذلك، فقد كان المصري على مر الأزمان ميالاً بطبيعته إلى النكات والرسوم الهزلية، حتى إنه استعمل هذه الرسوم في كثير من الأحوال لتدل على النقد اللاذع، والتهكم المشين خصوصاً في عهد الرعامسة، أي في الفترة من عام 1305 وحتى عام 1080 قبل الميلاد، حيث شغل الأجانب أغلب المناصب المهمة في مصر القديمة وقتها. تلك هي وظيفة النكات والرسوم الساخرة عند الفراعنة، ومثال ذلك قصة الفلاح الفصيح ، وهي باختصار قصة بسيطة في وقائعها حدثت في عهد الفرعون خيتي الأول أي في نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، بطلها فلاح مصري بسيط اسمه (خنوم أنوب)، وفقاً لموسوعة الدكتور سليم حسن، في الجزء السابع عشر، وبينما هو وحميره في طريقهم لبيع محصول حقله في المدينة، اغتصب منه أحد رجال الفرعون حميره وما كانت تحمله من محصول، لكن الفلاح البسيط لم يسكت، وذهب إلى الفرعون يشكو له أحد رجاله بعبارات تدين الفرعون نفسه وتحفل بقدر كبير من السخرية والنقد والتهكم وتطالبه بمحو الظلم ونشر العدل وحماية الفقير من رجاله الفاسدين الذين أفسدوا على البسطاء الحياة، فماذا قال الفلاح للفرعون في شكواه؟ أيها الفرعون، أنظر كيف انهارت العدالة تحت قدميك أنت ورجالك، وكيف انهار سقف دار العدالة ليتساوى بالأرض، لم يعد للعدالة مكان في البلاد لقد سقطت كفتا الميزان الذي تحمله، الحق للفقراء وميزان العدل قد سقط وهو بين يديك أيها الفرعون، رجالك يسرقون، والقضاة يسرقون ولا يصاحبون غير أهل الظلم ويغلقون أبوابهم ويسدون آذانهم أمام المظلومين، وإذا سرق القاضي عم الفقر البلاد وإذا هربت العدالة عم البلاد الفساد، فكبار الموظفين يأتون السيئات ولا يمدون يدهم لمساعدة الفقراء، وصغار الموظفين يمدون أيديهم للرشوة ويغتصبونها عنوة من الفقراء والمحتاجين. أيها الفرعون، الموت يدرك الغني والفقير على السواء، فلا تظن أنك خالد، لا دوام للكرسي الذي تجلس عليه، فقد جلس عليه آخرون من قبلك، وسوف يجلس عليه من يأتي بعدك وتذكر دائماً أن البستاني الذي يروي أرضه بالخبث ويزرعها بالشر لا يحصد إلا البهتان ولا ينتج بستانه سوى الرذائل لا سعادة لمن عاش على الجشع، وكما أن الأب مسؤول عن أولاده، فالحاكم مسؤول عن المحكومين وعن رجاله الفاسدين والرئيس مسؤول عن مرؤوسيه فلا تكن بطيئاً وعجل برد الحق إلى أهله. لم يتوقف الأمر فقط عند مثل هذا الفلاح البسيط، لكن الدكتور سليم حسن، في موسوعته المهمة يقطع بأن هذا هو ما كان عليه الحال، في كل عصور الفساد والتدهور التي مرت بها مصر القديمة، وكان المصريون خلالها يقاسون البؤس والشقاء، مما جعل الفنانين والمفكرين وأصحاب الأقلام وقتها لا يقفون متفرجين، بل ودفعهم إلى وصف سوء أحوال البلاد وقتها في نصوص ونكات ورسوم هزلية تنتقد الحاكم وتسخر منه، بل وذهب الفنان المصري القديم، إلى حد تجسيد أفكاره في البرديات وعلى جدران المعابد مصورة في هيئة حيوانات، وقد تناول الفنان في ذلك موضوعات كثيرة تنتقد الظلم وغياب العدل على ألسنة الحيوانات، مما يعيد إلى أذهاننا قصص كليلة ودمنة، ولا أدل على ذلك من تلك النكات والرسوم والنصوص التي سخرت حتى من الفرعون نفسه في عهد رمسيس الثالث، وغيره من الملوك الفراعنة، والتي تصورهم في صور حيوانات، وفي واحدة من البرديات المحفوظة في متحف تورين، كما يقول الدكتور سليم حسن على صفحة (588) وما بعدها من الجزء السابع من موسوعته، نقوش ورسوم هزلية، تؤكد أن الرسوم الهزلية التي تقتبسها الآن المجلات الإفرنجية ليست إلا اقتباساً توارثته الأجيال منذ آلاف السنين، مما كان عند المصريين القدماء. ومن فرط البلاغة: كان الفنان المصري القديم يستخدم الصور الهزلية والرسوم الكاريكاتورية ليقول من خلالها أكثر مما تقوله الألفاظ المباشرة من سخرية وتهكم، والمثال على ذلك تلك النكتة، أو تلك البردية الكاريكاتورية الساخرة والساحرة التي تصور الفرعون ورجاله الفاسدين من حوله بفرقة موسيقية مكونة من أسد وحمار وتمساح وقرد وكل منهم يعزف على آلة موسيقية معينة، وتصور أنت مدى القبح والنشاز والفساد الذي يمكن أن يخرج من عزف مثل هذه الفرقة، أو من حكومة متنافرة لا يجمعها فكر أو رؤية، أوتتسم بالجهل وادعاء المعرفة.

مشاركة :