بقلم: الكاتب والباحث السياسي الدكتور: أنمار نزار الدروبي إن قراءة الوضع السياسيّ في العراق بكل ما جرى وما يزال يجري من أعمال عنف وعمليات إرهابية، القتل والاغتيالات، وفي البحث عن الأسباب والتداعيات، يجب أن ننطلق من خلال وجود عَلاقة تأثير متبادلة بين البنى السياسيّة والعنف الحاصل في البلد. وبما أن النظام السياسيّ هو عبارة عن مجموعة من التداخلات والتفاعلات السياسيّة، وأن النظام السياسيّ هو جزء من اجتماعيّ يدخل في عَلاقات معقدة مع البناء الاجتماعيّ الكامل، واستناداً إلى ذلك لا يمكن عزل ظاهرة العنف والإرهاب السياسيّ في العراق عن مجمل بنية النظام السياسيّ بعد عام 2003م لأن الدولة وبنيتها السياسيّة تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الإرهاب السياسيّ، مثلما يتحمل مستخدمو العنف الذين يمارسونه ضد الدولة والمجتمع في آن واحد. وفي قضية مقتل الشهيد (هشام الهاشمي) واعترافات المجرم أو (اللغم) المنفذ للعملية، وأقول إنه اللغم الموجود في كل شبر من أراضي الدولة العراقية، ذلك اللغم الذي يهز الأرض تحت كل من يحاول الاعتراض على ممارسات الدولة العميقة أو يعبث مع أحد رموزها، أو قد يكون السبب هو الاختيار بين الوطن وبين غيره. فلا شك أن الشهيد الهاشمي اختار الوطن، وعليه قام محترفو القتل والإرهاب باغتياله. ولأن الربط بين النتائج والأسباب ليس ديدن مؤسسات الدولة العراقية، وأن تطرح تساؤلا عن الجهة التي أمرت وخططت ووفرت الدعم للقاتل، بمعنى أنك تفتح ملفا مغلقا من آلاف الملفات المحرمة لا يجوز المساس بها. وعليه أن قضية الهاشمي وبعد الاعترافات الكوميدية التي أدلى بها المجرم، تبدو منتهية بحسب المقاييس القانونية، وبعض القنوات الفضائية والمنابر الصحفية المأجورة، ومعها مفكروها الذين أشهروا ألسنتهم باتهام الطرف الثالث، أولئك المثقفون والمفكرون والمحللون الذين يحملون علمهم وثقافتهم على الاكتاف كشوال من الصخر لا غير. ولهذا فإن حقيقة قتل الهاشمي شأن آخر عن اعترافات المجرم المنفذ، لأن حالة النقد وكشف الحقائق تعبر عن الديمقراطية، والديمقراطية حالة ناضجة تهتم بالعدالة وسن التشريعات وحقوق الإنسان وغيرها، وهذا يتنافى مع سياسة أصحاب الأيديولوجيا في العراق. لكن على الوجه الآخر بالرؤية العلمية وحدها يتضح أن أصحاب الأيديولوجيا في العراق وخطابهم المتأزم، ذلك الخطاب الذي يُعبر في جوهره عن الكراهية والرفض الجاد تجاه الآخرين، لأنهم يتعاملون مع باقي المجتمع العراقي على أساس قسمة ثنائية، بمعنى أنه إما أن يكون الفرد مؤيدا لهم أو ضدهم، فهي تحتكر الشرعيّة، وتمنح نفسها حق تصويب العقيدة والمواطنة. فالآخر في نظر أصحاب الأيديولوجيا ضالٌّ وكافرٌ وخائن وعميل، ويجوز قتله. من هذا المنطلق أنها ترى المجتمع العراقي ضالًّا يجب هدايته، وعاصياً يجب معاقبته، وفاسداً ينبغي إصلاحه. لقد اتبعت هذه الجماعات شتى الوسائل والطرق، واتخذت أبرز الأساليب والأشكال في تجسيد العنف السياسيّ في العراق أبرزها: الاختطافات، والقتل والترهيب الإعلامي، ناهيك عن جذب انتباه الرأي العام لقضية معينة، وقد يكون بغية الإفراج عن بعض أعضاء الحركة، وفي أغلب الأحيان تكون للمطالبة بتغيير الحكم. أما الطريقة الأخرى للعنف فهي قضية الاغتيال السياسيّ، وهو أسلوب استخدمته، الهدف من ورائه هو بث الرعب والخوف والفزع في نفوس المعارضين، وإشعارهم أنهم لن يكونوا في مأمن من عمليات العنف. إن البنية الأيديولوجية هي الأساس الذي يُبنى عليه الفكر ليكون فيما بعد توجهاً يُلقي بتأثيراته على الواقع الذي نعيشه، وقد تعددت المنطلقات والأسس الفكريّة لتبرز في جوانب مختلفة. بيد أن الحالة العراقية تستند إلى أيديولوجيتين هما، الأيديولوجية الدينيّة والسياسيّة، وكل منهما ينطلق من بناء فكريّ أو أسس فكرية تتعامل بها هذه الجماعات مع الواقع. لكن المشكلة الجوهرية التي تعاني منها هذه الجماعات، تتمثل في أنها تنطلق من منظومات فكرية متعددة ومتناقضة، تمزج بصورة غير متجانسة بين ما تعلمته من مرجعيتها الفقهية وبين الفكر الاجتهاديّ الشخصيّ لقياداتها المحكوم باللحظة التاريخيّة الذي يُعبر عن مواقف أشخاص ورؤيتهم لقضايا معينة، مما يدفع إلى القول إن ممارسة العنف والقوة والترهيب لدى هذه الجماعات يهدف إلى خدمة مصالحَ خاصة قد تكون شخصية أو حزبية، ترتبط بالأهداف التي يرغب الزعيم في الوصول إليها. وتأسيسا لما تقدم، سيستمر صراع النقيضين في الدولة العراقية إلى أن يفضي هذا الصراع للقضاء على الدولة المدنية لصالح نظام أيديولوجي يقوم على سلطة قوية جدا، تلك السلطة التي لا تضع في حساباتها مصالح الطبقات الأخرى في المجتمع، بل تتجاوزها أصلا بضرب كل الأيديولوجيات المختلفة معها. لكن الأخطر في هذا النصر الأيديولوجي الساحق، هو انتصارهم على مستوى الشكل الاجتماعي للدولة، وهي النتائج التي أخذت تتضح مع تراجعات الدولة العراقية. وفي النهاية لقد وصلنا إلى مفترق الطرق الكبرى وإلى منطقة الأزمة، فمع إصرارهم على الثبات وعدم التغيير، وفقْدهم القدرة على التكيف مع باقي مكونات الشعب، سنحصد المزيد من القتلى، وستستمر هزيمتنا الحضارية وتخلفنا الفكري.
مشاركة :