في كل مرة يبهرنا نص روائي بفكرته وجمالياته وطريقة سرده وما يحمله من تفاصيل يبدع روائيون غير اعتياديين في نحتها، على غرار رواية “طين المقابر” التي تبدو فكرتها غريبة للغاية، لكنها تتطلب من قارئها ربط القصص ببعضها البعض ليحصل على حكاية واحدة تفكك أهم إشكالات المجتمع. في رواية “طين المقابر” الكلّ أموات. قد تبدو هذه طريقة غريبة لكتابة رواية، لكن الروائي الآيرلندي مارتين أوكاين لم يكن بالكاتب المعتاد. كان تقليديا وتجريبيا في الوقت نفسه وكما أراد، والوسيلة التي اختارها كأسلوب من أجل هذه الرواية ناسبت عبقريته من ناحية والمجتمع الذي كان يصوره من ناحية أخرى. قد تكون شخصيات هذه الرواية من الأموات، شخصيات ترقد في قبورها، لكنها لا تغلق أفواهها. فكرة أن الأموات لا يصمتون هي ما تمنح الحياة للرواية، إنها عبارة عن تصنّت لثرثرة واغتياب وشائعات وتذمّر ومعايرة وشكوى ووسوسة حول أهم أمور الحياة، لكن في الأغلب حول أتفهها أيضا، وهما كثيرا ما يكونان نفس الشيء. يبدو الأمر وكأنه في الحياة الأخرى تحت التراب، تستمر نفس الحياة القديمة، غير أنه لا شيء يمكن فعله حيالها غير الكلام. كاتب عبقري كانت الثقافة الوحيدة هي الكلام، لذا تحاول هذه الرواية اقتناص الكلام والنميمة والثرثرة اللانهائية التي كان المجتمع يتألف منها الرواية التي ترجمها عبدالرحيم يوسف وصدرت أخيرا من دار صفصافة تشكل قراءتها سيمفونية من الأصوات النشاز، أحيانا تنقلب إلى سلسلة من المونولوجات، التي يمكن أن تصبح حوارات ثنائية، ترتفع إلى تهكمات انتقامية وتخفت في لحظات حكيمة ولحظات طائشة. ثمة سرد ما، لكن عليك أن تنصت إلى خيوطه. هناك أكثر من قصة، لكنها جميعا مترابطة. علينا أن نتفحّص ما يقوله كل شخص وفقا لهاجس كل واحد -حيث يمكن لعبارة صغيرة أن تنبئنا بمن يكون المتحدث- أو شكوى كل واحد، أو مصدر قلق كل واحد الأشبه بلحن يحمل توقيع الشخص. الأمر أقرب إلى تحويل محطات راديو قديم، تسمع الآن هذه، وبعد ذلك تسمع تلك الأخرى. وبمجرد أن تألف الأمر، تنساب القصة بإيقاع مضبوط. لذا كان من الطبيعي أن تتحول الرواية إلى مسرحية إذاعية حققت نجاحا هائلا، كما جرى تقديمها على خشبة المسرح عدّة مرات، والأكثر إدهاشا من ذلك أنها تحولت إلى فيلم سينمائي من نوعية الكوميديا السوداء. ولد أوكاين عام 1906 في منطقة تتحدث كلها بالآيرلندية. وقد انخرط في أعمال سياسية جمهورية غير قانونية وفي أنشطة المجتمع، وجرى فصله من وظيفته كمعلم بعد شجار مع قس الأبرشية عام 1936. بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية بقليل، جرى حبسه دون محاكمة في معسكر اعتقال كانت الحكومة وقتها قد أقامته خصيصا للمنشقين. ورغم أنه كان قد نشر مجموعة قصصية واحدة عام 1939، إلا أنه يقال إن سنوات اعتقاله كانت سنوات تكوينه الحقيقي ككاتب. تظهر خطاباته أنه كان يقرأ بنهم ويكتب بغزارة. لا عجب إن كان انفجاره العظيم الأول من الإبداع حدث على الفور بعد الحرب، وهي الفترة التي كتبت فيها هذه الرواية. كان كاتبا استثنائيا، نشر خمس مجموعات من القصص القصيرة خلال حياته وواحدة نُشرت بعد موته. وتضم أعماله المجموعة روايات وقصصا ومحاضرات وخطابات ومجادلات وأوراقا سياسية وأعمالا تاريخية وترجمات ومقطوعات هجائية وكتابات أخرى غير مصنفة تماما. في تقديمه للترجمة يشير يوسف إلى ترجمتين تمّتا للرواية إلى الإنجليزية، وقيام كل مترجم بتقديم الرواية مثنيا ومشيدا بعبقرية أوكاين، يقول “قمت بترجمة هذه الرواية التي تحمل في الآيرلندية عنوان CrénaCille والذي يعني حرفيا ‘أرض الكنيسة‘، عن ترجمتين إلى الإنجليزية. حملت الأولى عنوان Graveyard Clay أو طين المقبرة وقام بترجمتها الكاتبان الراحلان ليام ماك كون أومري وتيم روبنسون وصدرت عام 2016، والترجمة الثانية حملت عنوان The Dirty Dust أو التراب الدنس وقام بترجمتها إلى الإنجليزية الكاتب آلان تيتلي (1947)”. ويقر يوسف بأن ترجمته مدينة لعمل ثلاثة مترجمين كبار بذلوا جهدا كبيرا في نقل هذا العمل الضخم والاستثنائي إلى الإنجليزية بعد ما يقرب من 65 عاما على نشره لأول مرة بالآيرلندية ليمثل علامة هامة في حياة كاتبه وفي تاريخ الأدب الحديث المكتوب بالآيرلندية. ويلفت إلى أنه مال للترجمة الأولى، ترجة أومري وروبنسون لوضوحها وبساطتها، حتى أنه اختار عنوانها للرواية، برغم إعجابه ببراعة الصياغة لدى آلان تيتلي، الذي حاول في ترجمته الاقتراب من عامية الحديث أغلب الوقت. كما اعتمد في الهوامش المرفقة كثيرا على هوامش أومري وروبنسون التي زوّدا بها العمل. وقد قام المترجمون الثلاثة بوضع مقدمات خاصة بهم في بداية الترجمة، حيث كتب أومري ما أسماه “ملاحظة تقديمية”، وكتب تيم روبنسون ما أسماه “حول ترجمة CrénaCille”، كما كتب آلان تيتلي “مقدمة المترجم”. فكرة مثيرة لقاء الأحياء بالأموات حقيقة مخيفة (لوحة للفنانة رندة مداح) لقاء الأحياء بالأموات حقيقة مخيفة (لوحة للفنانة رندة مداح) قام يوسف بترجمة مقاطع مطوّلة لما رآه ضروريا وكاشفا في مقدمتي تيتلي وأومري للرواية. كتب تيتلي يقول “الكلام هو الشخصية الرئيسية في هذه الرواية. ورغم أن الصفحات التقديمية للرواية تقول إن الزمان هو الأبدية، وهو أمر مفهوم في الحقيقة، لكن مكان الرواية هو مقبرة في مكان ما في كونيمارا غرب آيرلندا في بداية الأربعينات من القرن العشرين. في كونيمارا تلك -كونيمارا الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين- لم يكن هناك راديو إلا في بيت القس وبيت المعلم، ولم تكن هناك دار سينما، وهناك القليل من المحلات، كما لم يكن أحد قد سمع بالتلفزيون بعد. كانت الثقافة الوحيدة هي الكلام. كانت هناك أغنيات وموسيقى وبعض الرقص، لكن الكلام كان هو محور الإبداع. تحاول هذه الرواية اقتناص الكلام والنميمة والثرثرة اللانهائية التي كان المجتمع يتألف منها”. وأوضح “كل هذه الأصوات الميتة في المقبرة الصاخبة مشغولة فقط باليومي المباشر: الطحالب المسروقة، من تزوج بمن، حمار تعدى على أرض، ما تحتويه وصية إحداهن، كيف سرقهم صاحب الحانة، رغم وجود أصداء بعيدة للسياسة القومية وحتى للحرب العالمية الثانية. لكن الحياة البشرية كلها هنا؛ وإذا كان لك أن تنتقل إلى أي جزء من العالم حتى اليوم وتنصت إلى ثرثرة الأصوات المحلية، فلن يختلف الأمر كثيرا عما ستقابله في رواية الترابالدنس”. وأكد تيتلي أنه ينظر إلى هذه الرواية بشكل عام كواحد من أعظم منجزات الرواية باللغة الآيرلندية. ورغم أن اللغة الآيرلندية يمكنها أن تزهو بأطول أدب عامي دون انقطاع في أوروبا كلها باستثناء اليونان، وبالفعل، بواحد من أعظم الآداب الأوروبية جميعا حتى العصر الحديث، إلا أن تطوره انقطع خلال الغزو الإنجليزي. هكذا جاءت الرواية متأخرة إلى اللغة الآيرلندية، كما حدث في أغلب المجتمعات ما قبل الحضرية وغير الكوزموبوليتانية. ويلفت المترجم إلى أنه رغم أن اللغة الآيرلندية كان لديها تقليد نثري حي حتى منتصف القرن السابع عشر، فقد انحدر هذا التقليد لأسباب سياسية واجتماعية انحدارا سريعا خلال القرنين التاليين. وبما أن معرفة القراءة والكتابة باللغة الآيرلندية كانت في حدها الأدنى، كانت فرصة تطور الرواية قليلة أيضا. تغير هذا مع تجدد الاهتمام باللغة في آخر القرن التاسع عشر وخاصة بعد استقلال “الدولة الآيرلندية الحرة” الجديدة، عندما ظهر جيل جديد من القراء باللغة الآيرلندية. ويرى تيتلي أن أوكاين آمن بأن الكلام هو أفضل طريقة لتصوير ما كان يدور في أذهان الناس، وهو ما يفسر الكثير في ما يتعلق بالبنية السردية للرواية. قيل إنها اعتمدت على قصة قصيرة لديستويفسكي من ناحية، وعلى مجموعة قصائد “أنثولوجيا سبوون ريفر” لإدجار لي ماستر من ناحية أخرى. وردا على هذا الجدل الواسع حول أصولها، حكى أوكاين حادثة جرت في منطقته قبل سنوات من كتابته للرواية. فقال “ذات يوم مطير بائس كانت امرأة تدفن في كونيمارا وقام اللحادون عن غير قصد بفتح القبر الخطأ. كان اليوم سيئا جدا حتى أنهم لم يستطيعوا حفر واحد آخر، لذا ألقوا بها داخل القبر الذي فتحوه بالفعل. عندئذ أدرك أحدهم أنهم يضعون تابوتها فوق تابوت غريمة قديمة لها. فتمتم أحد المراقبين: ياللبقرة المقدسة، سيحدث شجار ولغط شديدان!”. وتابع أن الشخصية الرئيسية في الرواية، هي كاترينا بودين. إنها ليست بالمرأة التي تودّ مقابلتها في الحياة الحقيقية، رغم أن مقابلتها في الحياة الأخرى قد تكون مخيفة كذلك. إذا كان هناك ما يسمى بحب حياتها فهو مخفي بشكل جيد، لكن محط كراهية عمرها هي أختها: نيل. إن المرارة التي بينهما تحلي القصة بأكملها. كل من في المجتمع المحيط يجذبون إلى داخل دوامة هذه الكراهية، تنفتح القروح القديمة، وتتجدد الخدوش القديمة، وتمنح الضغائن الدائمة حياة جديدة. فكرة أن الأموات لا يصمتون تمنح الحياة للرواية، إنها تنصت على ثرثرة واغتياب وشائعات وتذمّر حول أهم أمور الحياة فكرة أن الأموات لا يصمتون تمنح الحياة للرواية، إنها تنصت على ثرثرة واغتياب وشائعات وتذمّر حول أهم أمور الحياة ويوضح أوكاين “تضعنا هذه الشخصية أمام صورة كاملة لمجتمع مغلق غير مبال إلى حد كبير بالعالم الخارجي، صورة بها بثور والمزيد من البثور، لكننا ننتعش أيضا بإنسانيتها الرائعة. ولا ينبغي الاعتقاد بأن تلك كانت وجهة نظر أوكاين الوحيدة للحياة في مجتمعه. فاختياره للكتابة بهذا الأسلوب هو اختيار فني، بينما الكثير من قصصه الأخرى المتعاملة مع الحياة التقليدية التي جاء منها يمكن أن تكون حانية وتراجيدية وحساسة”. ورغم أن الكثير من النساء في روايتنا هذه يبدو أنهن أشبه بمحاربات الأمازون المتوحشات، إلا أن كثيرا من كتاباته تهتم بالمأزق الشخصي والاجتماعي للنساء، سواء في العبودية الاقتصادية أو في العقم أو نتيجة فقد الأطفال. كان يعرف جيدا ثمن الفقر وسحق الروح الإنسانية الذي كان ينتج عنه غالبا. أما ليام ماك كون أومري فكتب موضحا في مقدمته أن “الرواية كتبت خلال الفترة 1945-1947 وجرى تقديمها بعد ذلك إلى مسابقة البرلمان الآيرلندي السنوية الأدبية عام 1947. وقد استلزم هذا إنتاج نسخ عديدة بخط اليد. بعد ذلك نشرت الرواية مسلسلة ما بين فبراير وسبتمبر 1949 في جريدة آيريش بريس، التي كانت تحظى بانتشار واسع في الريف والحضر. كانت هذه الجريدة على صلة وثيقة بإيمون دي فاليرا وحزب فيانا فايل كما كانت منصة أدبية لها أهميتها في فترة ما بعد الحرب”. ويبين أنه بعد نشرها مسلسلة وما حظيت به من ترحيب كبير، قدم مخطوط الرواية لوكالة النشر التابعة للدولة: آن جوم. وفي مواجهة تلك المفارقة الراديكالية للتقليد الأدبي الراسخ بوجود جثث تتشاجر في قبورها، استقبلت آن جوم الرواية استقبالا فاترا. وأخيرا عثر النص وكاتبه على بطل في هيئة سارشيل آجوس ديل، وهي دار نشر صغيرة في دبلن تأسست عام 1947 واكتسبت سمعة طيبة بالفعل لنشرها أدبا معاصرا من نوعية أدبية عالية. ويوضح “رغم أن الطبعة الأولى تحمل تاريخ النشر في عام 1949، إلا أن الكتاب لم يظهر بالفعل إلا يوم 10 مارس 1950. ما زال إغواء قراءة هذه الرواية كسجل أمين وتمثيل صادق للحياة المعاصرة في المناطق المتحدثة بالآيرلندية يظهر في النقد الآن كما فعل وقت صدور الرواية”.
مشاركة :