لماذا يعتبر الخيال مهمًا للقصة وما الذي يجعل منها عملاً رائعًا؟ كيف ينشأ الخيال، وكيفية عمل العقل أثناء القراءة؟ لماذا نبقى منغمسين في قصة أو لماذا ننفر منها؟ كيف تكتب أو تقرأ قصة بطريقة أفضل؟ ما الذي يمكن للقصص أن تخبرنا به عن أنفسنا وعالمنا اليوم في هذه الأوقات المضطربة وكيف تساعدنا على رؤية العالم بانفتاح وفضول..؟ كيف يعمل السرد، وما الذي يجعل القصص العظيمة تنجح وتستمر في البقاء، وكيف يمكنها تغيير أنماط من السلوك والمعتقدات؟ تلك التساؤلات يطرحها بطريقة مشوقة القاص والروائي جورج سوندرز (سبق له الحصول على جائزة بوكر للأعمال الروائية)، من خلال أسلوب فريد في التحليل يغوص في سبع قصص قصيرة كلاسيكية التي كتبها عمالقة الأدب الروسي: تشيخوف وتولستوي وغوغول وتورجينيف، وكان المؤلف يُدرِّسها لمدة عشرين عامًا كأستاذ في برنامج الكتابة الإبداعية والفنون الجميلة بجامعة سيراكيوز (الولايات المتحدة).. هنا وبعيداً عن الأكاديمية يقدم سوندرز درساً مبهجًا حول إمكانيات الرواية، يوجهه للكاتب المحترف وللقارئ الهاوي ولأي شخص مهتم بكيفية عمل الخيال في النص الإبداعي.. درس أدبي متقن يجمع بين الطرافة والصرامة.. في مقدمته كتب سوندرز: «سنقوم بإدخال سبعة نماذج [قصصية] مصاغة بدقة من العالم، مصممة لغرض محدد ربما لا يؤيده عصرنا بالكامل، لكن هؤلاء الكتاب قبلوا ضمنيًا كهدف للفن - أي، لطرح الأسئلة الكبيرة، أسئلة مثل: كيف يفترض بنا أن نعيش هنا؟ ما الذي وضعنا هنا لتحقيقه؟ ما الذي يجب أن نقدره؟ وفي كل الأحوال، ما هي الحقيقة، وكيف يمكننا التعرف عليها؟». ورغم أكاديمية المؤلف إلا أن طريقة تحليله الأدبي غير أكاديمية، فبدلاً من السؤال التعليمي «كيف يجب أن نقرأ هذا؟» يعكسها إلى «لماذا فعل الكاتب هذا؟» رغم أن محصلة الإجابة في كلتا الحالتين قد تتشابه.. ففي قصة «في العربة» لتشيخوف يقاطع النص باستجواباته في كل صفحة: الآن ماذا تعرف؟ وما الذي يثير فضولك؟ إلى أين تتجه القصة برأيك؟ لماذا ذهب تشيخوف بهذه الطريقة وليس تلك.. الخ، متتبعًا مقاصد القاص المباشرة والمخبئة من خلال الحدس والغريزة والمنطق.. في تلك القصة نتابع ماريا، مديرة المدرسة المنعزلة والوحيدة تعمل في قرية كئيبة.. وتشق طريقها في العربة إلى المنزل من المدينة التي تذهب إليها لتحصيل راتبها، إلى مدرسة القرية ذهاباً وإياباً تكراراً ومرارًا ولا شيء آخر.. وبدا لها أنها تعرف كل حجر، كل شجرة على الطريق من المدينة إلى مدرستها.. ملل بلا مستقبل. القصة تقول عنها: «إنها غير سعيدة ولا يمكنها تخيل أي حياة أخرى لنفسها». ونشعر بأن القصة تُجهز نفسها لقول شيء مشابه لهذا السياق.. ما الذي يتوقعه القارئ لإنقاذ مستقبلها الكئيب؟ ما هي تلميحات القصة لما سيأتي؟ علاقة غرامية مع شاب ثري؟ ربما يكون ذلك من كاتب أقل جودة من تشيخوف.. تعمل الكتابة الجيدة في علاقة معقدة مع توقعات القارئ، تثيرها وتقودها، ثم تتجاهلها أو تتجاوزها. ليس لمجرد تخيب توقعات القارئ: إذ لا يمكن للقصة أن تفعل شيئًا مع ماريا، فهذا سيكون خداعًا. سنسأل، إذن ما الغرض من القصة؟ يجب على الكاتب أن يجد نقطة بارعة بين قرار سعيد بشكل غير معقول ورفض قاسٍ للرضا.. عليه أن يكتشف ما هي الحركة المفروضة، وما هي الحرية المتاحة، داخل الظروف الخاصة للقصة.. ولكن دون التلاعب بينهما بثمن بخس. كونه تشيخوف، فإنه يجدها بطريقته الفذة (تيسا هادلي، الجاردين). الكتابة الجيدة هي «النتيجة التراكمية لكل هذا الاختيار المتكرر لآلاف القرارات الصغيرة لتحريرها ووضعها على خط منسجم». يقول سوندرز للكاتب: «كن دقيقًا! احترم الكفاءة! كن دائماً متصاعداً في القصة.. هذا كل ما في الأمر، فعلاً: نظام تصاعدي مستمر! رقعة نثرية تكتسب مكانتها في القصة إلى حد أنها تسهم في شعورنا بأن القصة (لا تزال) تتصاعد». في ذروة قصة «السيد والرجل» لتولستوي، ضاع التاجر الثري فاسيلي أندريفيتش في عاصفة ثلجية ليلاً ويتخيل حقيقة وفاته للمرة الأولى، رأى سيقانًا طويلة من الشيح تخرج من الثلج... تقذف بشدة تحت عصف الريح التي تضربها كلها على جانب واحد وتصفر من خلالها». الكتابة تشدنا من خلال وصفها المباشر وشكلها المستحيل. وهذا في رأي الكاتب أيضًا: فهو لا يفكر فقط في كيفية امتاعنا بشكل أكثر فعالية، بل إن جهده في تلك اللحظة من الكتابة، وفي خضم كل «اختياره المتكرر» يخضع للرؤية في عين عقله، والتي لا تزال ثابتة بالنسبة له حتى وهو يجاهد لتحقيقها إلى حيز الوجود.. وهو ما يجعل القصة جيدة (تيسا هادلي، الجاردين). بكل تواضع كتب سوندرز: «أنا لست ناقدًا أو مؤرخًا أدبيًا أو خبيرًا في الأدب الروسي أو أي شيء من هذا القبيل. كان محور حياتي الفنية هو محاولة تعلم كتابة قصص مؤثرة عاطفياً يشعر القارئ بأنه مضطر لإنهائها.. الهدف من هذا الكتاب هو التشخيص بشكل أساسي: إذا جذبتنا قصة، وأبقتنا نقرأ، وجعلتنا نشعر بالاحترام، فكيف فعلت ذلك؟»
مشاركة :