التفكير الإبداعي في قصة «أنا أفكر» للكاتب إبراهيم سند

  • 7/24/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

هل يمكن من خلال قصص الأطفال أن نتعرف على تاريخ منطقة ما؟ أو أن نرصد التطور الذي بلغه الطفل في تلك المنطقة؟ لو قمنا بقراءة مسحية لعدد من القصص البحرينية الموجهة للأطفال سواء قصص الأجداد المحكية أو القصص المنشورة على مدى أربعين عامًا، من نهاية السبعينيات إلى اليوم، لعلنا سنجد أن الطفل الذي يسكن قلوب وعقول الكتاب ما زال طفلًا، إلا أنه ليس الطفل نفسه، إذ أنه دائم التغير. إذا كانت القصص القديمة قد ركّزت على تخويف الطفل، من الظلام أو من الخروج من البيت ليلًا، أو ركّزت على ضرورة الالتزام بطاعة من هم أكبر منه، أو كانت تُذكّر الأطفال دائمًا بجهلهم وقلة خبرتهم وإمكانية ارتكابهم للأخطاء، فإنها تحولت لاحقًا إلى قصص تعالج ذلك الخوف، وتزرع الثقة في قدرة الطفل على التغيير تحت ظل الكبار، إلى أن وصلنا في مرحلة لاحقة، إلى القصص التي يبادر فيها الطفل إلى حلّ مشكلاته بنفسه، بل أكثر من ذلك، فالقصص اليوم يكون فيها الطفل هو الذي يقترح الحلول على الكبار. هذه التغيرات لا تعكس تطور الأدب، بقدر ما تعكس تطور الطفل في بيئتنا من حيث طرق التفكير. وقد صارت من الماضي، تلك القصص التي تنتظر (الصدفة) لتقديم الحل، كأن يمر الصيّاد صدفة وينقذ الشخصية، أو التي يظهر فيها المارد الذي يلبي الطلبات، أو السمكة التي تقول لبطل القصة: «شبيك لبيك»! القصص اليوم، التي تنظر للقارئ كمواطن عالمي، تنحو نحو إعطائه زمام المبادرة لحل مشكلاته، باعتبار أن العالم من حولك مليء بالمشكلات التي سيكون عليك المبادرة في حلّها، دون انتظار الحلول المعلبة التي يقدمها الآخرون. وتأتي قصة (أنا أفكر) كإحدى درر التاج إن صح التعبير في أدب الأطفال في البحرين، في مجال ما يمكن للطفل أن يبلغه من مستويات التفكير الإبداعي. القصة تتناول قضايا فلسفية تتعلق بالتفكير الإبداعي وطرق حل المشكلات، وقد أتى العنوان من المقولة الشهيرة لديكارت: «أنا أفكر إذًا أنا موجود». وعلى مستوى العالم، ظلت القضايا الفلسفية لمدة طويلة من الزمن حكرًا على الكبار، بل والمتخصصين منهم فقط، إلا أنّ هذه النظرة بدأت تتآكل لاحقًا، وظهرت أسئلة من نوع: هل يمكن التطرق للقضايا الفلسفية في قصص الأطفال أو أن تكون الفلسفة هي موضوع هذه القصص؟ وبعد عدّة محاولات جاء هذا السؤال: هل يمكننا الحديث عن أدب فلسفي موجه للطفل؟ وجاءت كتابات في هذا المجال لتؤكد على أنّ عالم الفلسفة ليس ذلك العالم الكئيب، وأن الطفل بطبيعته دائم التساؤل وإنما نحن من نقمعه، وأن الفلسفة تناسب جميع الأطفال، والأطفال العاديين قادرين على التفكير في مواضيع فلسفية، وهم يقومون بذلك متى توفر الدافع والمحفز، والمطلوب مساعدتهم على التعبير عن آرائهم، وأنه بإمكان الطفل تعلم الفلسفة قبل أن يبدأ تعلم القراءة والكتابة. ولا نقصد بالفلسفة هنا الآراء الفلسفية، وهي متباينة، بل نقصد فعل التفلسف، ومحاولة إيجاد حلول للمشكلات من خلال أفكار جديدة. إن الحاجة اليوم لتناول مسألة التفكير الإبداعي باتت ملحة بشكل أكبر، خصوصًا بعد ما أفرزته جائحة كرونا من عزلة، بين الطفل وبين عالم افتراضي استهلاكي بنسبة كبيرة، مع بروز ظاهرة العزوف عن القراءة والكتابة. والأدب كالفلسفة، في إمكانية طرح مختلف القضايا، ولكنه يستعمل صيغة الحكي، ليقول بأنه يمكن للأطفال تطبيق مهارات التفكير باكرا عن طريق القصص، التي تشجيع الطفل على التعبير عن آرائه، وتعزيز ثقته بنفسه وبقدراته اللغوية في التعبير الشفوي، واحترام التصادم السلمي بين الأفكار. ولعلّ المتابع للمنتج العربي في مجال أدب الطفل، يجد ندرة في هذا المجال، وتأتي قصة (أنا أفكر) لتسهم في سدّ هذا النقص. وهي قصة فتى في العاشرة من عمره اسمه (ماهر)، يخرج للتنزه في الريف مع كلبه (مدهش)، وسط جو الربيع الجميل، إلا أن الكلب الأليف وفي غمرة اندماجه في المرح، يسقط في حفرة عميقة. ومن باب احترام ذكاء القارئ يقدح الكاتب شرارة العقدة في الصفحة الأولى، في آخر سطر منها، فالطفل اليوم يتميّز بالعجلة، والرغبة في الدخول في أجواء المشكلة من البداية. يتحير ماهر في طريقة إخراج كلبه، ويبحث عن الحلّ، عن طريق التفكير في جميع الحلول الممكنة، إلى أن يصل إلى حلّ مبتكر، إلا أنّ حلّ هذه المشكلة أدخله في مشكلة أخرى، وهكذا، كلّ حل يتضمن اكتشاف مشكلة جديدة، والخروج من مشكلة قد يعني الوقوع في أخرى، سواء وقوعه هو أو أي من شخصيات القصة، والذين عادة يفكرون في حلول نمطية لمشكلاتهم، لا تؤدي إلا إلى استمرار هذه المشكلات، بينما يبحث ماهر عن حلول أخرى. وهنا أشير إلى جملة لافتة، تتكرر بمضمونها على لسان شخصيات القصة، عندما يقدم ماهر حلولاً مبتكرة لمشكلاتهم وهي «لماذا لم أفكر في هذا من قبل؟!»، وهي جملة ميّزها مصمم الكتاب بلون فاقع على أساس أنها جملة محورية، وكأنها الحاملة للمقولة المراد توصيلها للقارئ، من أن التفكير الإبداعي يعني التفكير في حلول جديدة وغير متوقعة. وهنا أضرب أمثلة على نماذج من الحلول التي قدّمها بطل القصة للآخرين، فعندما وجد ماهر أن المزارع لا يزرع في حقله إلا الذرة، اقترح عليه أن ينوّع ما يزرعه من بذور، وأن يجرب زراعة البقول والحبوب؛ لأنها أكثر نفعًا. هذا المزارع الذي لم يخطر على باله طوال أربعين عامًا غير زراعة الذرة، يعجب بالفكرة ويقول: «لماذا لم أفكر في هذا من قبل؟!». ومثال آخر، موقف الطبيبة التي ذهب إليها ماهر لتنتزع شوكة دخلت في إصبعه، وعندما أرادت إحضار الضمادة من الرف العلوي، وقفت على الكرسي، الذي سقط وانكسر بفعل الضغط. هنا فكرت الطبيبة أن حلّ مشكلة الكرسي المكسور ستجده عند النجار، إلا أن ماهر رأى أن المشكلة أعمق من ذلك، فلو كان لدى الطبيبة مساعد يناولها الأدوات لما انكسر الكرسي من الأساس، إلا أن الطبيبة رفضت المقترح لأنها لا تستطيع تحمل نفقات المساعد، وهنا يقترح ماهر أن تستعين بمتطوعين. اعتمدت حبكة القصة على النمط التتابعي في السرد، باعتبار أن النقطة الأولى تجرّ إلى النقطة الثانية وهكذا دواليك، إلى أن تصل إلى نقطة بعيدة أو تعود إلى النقطة الأولى، وهو ما حدث في هذه القصة، بالعودة إلى الحفرة الأولى التي وقع فيها الكلب مدهش، ولكنها لم تعد الحفرة الأولى، ولا المشكلة الأولى، فتراكم الأحداث جعل منها مرتكزًا لمشكلة عميقة، تمثل المجتمع بأكمله. الحبكات المبنية على أساس (السبب والنتيجة) هي نوع من الحبكات التي تحاول تفسير كل ما هو ظاهر، بل ما هو باطن أيضًا. علمًا أن النتيجة الواحدة قد يكون لها أكثر من سبب، وكل مستوى من التفكير بإمكانه أن يرصد سببًا مختلفًا، رغم أن مجموع هذه الأسباب وليس واحدًا منها هو الذي أدى إلى النتيجة. وكما تختلف معرفة الأسباب، تختلف الحلول، فهناك الأسباب التي لا نشعر بها، أو الصغيرة، وتكون ذات أثر بالغ على النتيجة، وهو فحوى نظرية (أثر الفراشة) التي اعتمد عليها الكاتب في حبكته. وهي النظرية التي أطلقها عالم الرياضيات والأرصاد إدوارد لويرنتز في العام 1963، وتنص على «أن تحريك جناح الفراشة في الصين سيتسبب بحدوث إعصار مدمر في أمريكا». ورغم أنّ النظرية بالأساس هي في مجال الأرصاد الجوية والرياضيات، إلا أن استخداماتها شملت كافة العلوم والفنون، ومنها الأدب. في قصة (أنا أفكر) نجد أن حادثًا بسيطًا، وهو وقوع كلب أليف في حفرة، يجر إلى سلسلة من الحوادث الغير متوقعة، تؤثر على مجموع سكان منطقة ما، وبنظرة أكثر اتساعًا ربما نجد أن أثرها يتعدى إلى منطقة أوسع من العالم. أن نظن أن مشكلتنا في جهة ما، ثم نكتشف أنها في جهة أخرى، أو أن نظن أن الحل الجاهز هو كذا، ثم نكتشف أن هناك حلولا مختلفة للمشكلة ذاتها. كل ذلك يقودنا إلى التساؤل: هل إن إفساح المجال باكرًا أمام أطفالنا، لممارسة التفكير الإبداعي، وتشجيعهم على تقديم الأفكار من خارج الصندوق، سيسهم في حلّ مشكلات بقينا نحاول أن نحلها، ولم نزدها إلا تعقيدًا؟

مشاركة :