خلال ثلاثين سنة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت مدن بريطانية كثيرة تدمّر تاريخها بالكامل، فاختفت الشوارع السكنية واستُبدِلت بأبراج شاهقة، وأصبح التكيّف مع السيارات حاجة دائمة، كذلك، تحوّل النسيج الكثيف والفخم والملطخ بالدخان في المدن الفيكتورية إلى سحب من الغبار، ووفق معظم الحسابات، طَمَس البلد عمداً مبانيه التاريخية خلال الخمسينيات والستينيات أكثر مما فعل سلاح الجو الألماني في زمن الحرب، فبرأي المؤرخ المعماري غافين ستامب، «تفسّر مشاعر الخجل من الماضي الصناعي هذه التطورات كلها، ويسود رفض تام لإرث العصر الفكتوري المظلم لكن الأساسي نتيجة رؤية اشتراكية بحتة، حتى أن هذه النزعة قد تتجاوز عتبة كراهية الذات المدنية». ارتكبت السلطات المحلية بقيادة حزب العمال حماقات عدة طبعاً، منها طمس أحياء كاملة في غلاسكو لإنشاء طريق سريع داخل المدينة، لكن لم يكن ممكناً لوم الاشتراكية على الدمار المعماري أكثر من الجشع والفساد وقلة الكفاءة والفكرة الغريبة القائلة إن القرن البريطاني العظيم من حيث الإنجازات التقنية والنفوذ العالمي أنتج مباني لا تستحق البقاء. قد لا يتعلق جوهر المشكلة الحقيقي بـ»كراهية الذات المدنية» التي تكلم عنها غافين ستامب أو بالرؤية المستقبلية المضلِّلة للمخططين الذين أرادوا محو أجزاء واسعة من حي «كوفنت غاردن»، بل ربما يكون الفقر المدني والضعف المدني جزءاً من الأسباب الأقرب إلى الواقع، فقد كانت السلطات المحلية والمتعطشة للأموال النقدية تتوق إلى كسب المال، ولم يكن الناخبون ملتزمين بهذا النوع من القضايا، وتراجع التدقيق الإعلامي بهذا الملف، فظن الصحافي والكاتب كيث واترهاوس أنه يملك الجواب الحقيقي في عام 1975، فلام المستشارين المحليين بدل لوم اللامبالاة البريطانية، فالمشكلة برأيه تكمن في قلة كفاءة عدد كبير من هؤلاء المستشارين، مما يعني أنهم لا يتمتعون بالذكاء أو المهارة اللازمة كي يدركوا أن عصابات العقارات تتلاعب بهم. دائماً ما يفاجئ التغيير الأطراف غير المعنية به، ورغم تنفيذ خطة «بريكست» وانتشار فيروس كورونا، تتعدد المشاريع المرتقبة، ووفق منتدى «الهندسة المعمارية الجديدة في لندن»، أصبح 127 مبنىً فيه أكثر من 20 طابقاً قيد البناء راهناً، وحصلت 310 مشاريع أخرى على إذن لتنفيذ خطط كاملة، ويصل عدد الطلبات أو الإجراءات التي بلغت مرحلة متقدمة إلى 150. يتعلق أحد طلبات الإذن المنتظرة بشارع المتاحف على طرف حي «كوفنت غاردن»: إنه مبنى ضخم بعلو 82 متراً، وهو يَعِد بتخصيص 23 ألف متر مربع لإنشاء المكاتب، فضلاً عن 12 منزلاً «مقبول الكلفة» فقط. تكاتف تحالف من المنظمات المحلية، بما في ذلك «جمعية مجتمع كوفنت غاردن»، لمعارضة هذا المشروع على اعتبار أنه سيطغى على مبانٍ أخرى، ويؤثر على المناظر التي تحظى بالحماية حتى الآن، ويدمّر البنى القائمة التي يمكن تغيير استعمالاتها، وبعد حقبة «بريكست» وانتشار فيروس كورونا، من المنطقي أن يتساءل هذا التحالف حول الحاجة إلى توفير مساحات إضافية للمكاتب. من يريد بناء هذه المشاريع فعلياً؟ تذكر قوائم طلبات التخطيط شركة «لاب سيلكريك هاوس» المحدودة، لكن ما خلفية هذه الشركة؟ هي تقع رسمياً في «غيرنسي» ويَرِد في المعلومات المرتبطة بها اسم مديرَين: مديرها التنفيذي إسرائيلي مقيم في إسبانيا، ومديرها المالي ليتواني مقيم في بريطانيا، تملك هذه الشركة أيضاً مئة مديرية أخرى، بما يشبه شركات العقارات النموذجية في لندن. حين انتصرت «جمعية مجتمع كوفنت غاردن» على عكس جميع التوقعات خلال السبعينيات، كان البعض لا يزال يتصور الرأسمالية على شكل رجل إنكليزي يضع قبعته التقليدية ويتجه إلى تناول غداء طويل، لكن لا مفر من أن يصطدم هذا النموذج اليوم بالعالم الشاسع والمتبدل. * إيان جاك
مشاركة :