دارت إحدى أعظم معارك الأدب العربي الحديث، حول صيغة وقالب التعبير الأدبي نفسه وبخاصة الشعر تعريفاً وتعبيراً، وذلك عندما انشغل الأدباء لنصف قرن وأكثر في تجديد الشعر وتعريفه وتحديده، وبخاصة هل تبقى القصيدة موزونة مقفاة، كما كانت عبر عصور الأدب نحو ألفي عام وأكثر؟ أم حرة مشتتة الكلمات والأبيات بلا وزن أو قافية كما يشاء الشاعر؟! ثار جدل وانقسام واسعين في الحياة الأدبية حول ظهور الشعر الحديث أو الحر، وهل الشعر، هو المقفى الموزون وحده، أم أن هناك قصيدة نثرية، على ما يبدو من تناقض في الاصطلاح؟! كان الشعر «ديوان العرب» وأصبح مفرِّق العرب، وامتد الاختلاف والافتراق إلى هذا السلاح الأدبي الخطير، الذي كان ذات يوم في الثقافة العربية بمثابة «وزارة إعلام» كاملة فما «القصيدة الشعرية»؟ تقول «الموسوعة العربية الميسرة» في التعريف: «القصيدة في الشعر العربي، المنظومة الطويلة ذات الوزن الواحد والقافية الواحدة، ويجب ألا تقل عن 7 أو 10 أبيات، ولكنها عادة بين 30 و50 بيتا، ولا يتكرر لفظ القافية إلا بعد عدة أبيات، وأدى ذلك إلى أن يختار الشعراء قوافيهم سهلة، كما أرغمهم عند الطول على الإتيان بالنادر والنابي من الألفاظ، وتتناول القصيدة عدة موضوعات، والصورة الغالبة لها أن تبدأ بالنسيب- أي الغزل- فوصف الصحراء والرحلة فيها، والناقة، فالمدح أو الهجاء، ولكن بعض الشعراء مثل ابن أبي ربيعة، وابن الأحنف والمعري كانت أكثر قصائدهم موضوعا واحدا، واختلف الشعراء في الطول والقصر، وأكثرهم إطالة ابن الرومي، وكان الشاعر يؤلف القصيدة الواحدة في الأزمنة المتباعدة لطولها، وانتقلت القصيدة من الأدب العربي إلى شعراء الأدبين الفارسي والتركي، فحاكوها، وإن لم يبلغوا بها طول القصيدة العربية لتعذر إيجاد القوافي المتحدة في هاتين اللغتين». هذا ما تقوله الموسوعة الميسرة، وقد يختلف البعض معها، فمعظم شعراء العرب المعاصرين يشعرون اليوم بالسعادة والراحة لزوال هذه المفاهيم وتحرر القصيدة العربية! انقسم العرب، أدباء وشعراء وقراء، إلى معسكرين إزاء الشعر الحديث وبخاصة الموقف من الوزن والقافية، وما عرفته المحاولات الشعرية في النصف الثاني من القرن العشرين من تجارب. فهناك معسكر يقوده أنصار الشعر الجديد الحر، كما هو الأمر مثلا مع «لويس عوض» الذي أعلن «موت الشعر العربي»، وقال: «إن الشعر العربي مات سنة 1932 بموت الشاعر أحمد شوقي، ومن شك في ذلك فليقرأ شعر «مدرسة أبولو» وسائر الرومانسية المجددين!». (الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث، د. محمد الكتاني، ج2، الدار البيضاء، 1982، ص991). في حين عارض عباس محمود العقاد الشعر الحر، وكان يسميه محتقرا «الشعر السايب»، ولا يعتدّ حتى بشعر التفعيلة فيه. (المرجع نفسه ص1031). وفي بعض المراحل عندما حمي وطيس الصراع اضطر المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في مصر سنة 1964 أن يفتي في المشكلة، حيث رفعت لجنة الشعر إليه مذكرة ضمنتها الرأي الرسمي الذي يجدر بالمجلس أن يتبناه، في قضية الشعر الجديد في نقاط خمس: «1 - أن لجنة الشعر تبني مواقفها على الأسس المستقرة والقيم الثابتة لفن الشعر، تاركة للأفراد أن يجددوا ما شاؤوا والزمن كفيل بتمحيص الجيد وإضافته إلى التراث الذي تتكون منه شخصية الأمة. 2 - أن أصحاب الشعر الجديد لم يتفقوا على صورة معينة لهذا الشعر يمكن تقنينها ورسم حدودها، وإنما هم مختلفون أشد الاختلاف حول المسائل الأساسية في هذا الشعر. 3 - أن الهادم هنا لا يدري حدود التهديم، وتجربة الشعر الحر تؤكد ذلك، حيث أصبحت اللغة الفصحى نفسها موضوعا للجدل والنقاش، مع العلم أن فن الشعر هو الفن الوحيد الذي يجعل صيانة اللغة جزءا من كيانه، ولأن الأمم لا تفتخر بشعرها إلا على هذا الأساس، فإذا تعرضت اللغة القومية لأي تفريط في صحة الصياغة وسلامة العبارة في الشعر فالقضية قضية قومية قبل أن تكون قضية أدبية. 4 - أن مما يلفت النظر في دعوات الداعين للشعر الحر هدمهم للقيم الفنية الموروثة ومحاولة تحطيمهم أعلام الشعر العربي قديمه وحديثه. 5 - أن مراجعة الكثير مما يسمى الشعر الجديد يكفي للدلالة على أن أصحابه واقعون تحت مؤثرات منافية لروح الثقافة الإسلامية العربية، التي هي الروح المميزة لشخصيتنا الفنية على مدى العصور». (المرجع نفسه، ص 1032-1033). هذه المذكرة، يقول «د. الكتاني»، تلخص موقف خصوم الشعر الحر أو الشعر الجديد في تلك المرحلة، وقد وجهت ضد مجلة «الشعر» منبر الشعراء المجددين يومئذ في مصر، وقد صدرت في لبنان كذلك دورية شهرية باسم «شعر» كان مؤسسها ورائدها الأبرز الشاعر اللبناني «يوسف الخال» (1917-1987). يرى الباحث السوري المعروف «محمد جمال باروت» أن مجلة «شعر» الصادرة في بيروت، قد «رسّخت اسم الشعر الحديث كبديل من اسم الشعر الحر، وأعطت مفهوم الشعر الحديث مضمونا كيانيا شخصانيا وميتافيزيقيا، ودفعت اتجاه قصيدة النثر، مميزة إياه من الشعر المنثور ومن الشعر الشعري». ويضيف باروت «أن تأثير هذه المجلة كان عميقا بعد أن أنجزت مهمتها»، ولهذا حين أعاد «الخال» إصدارها بعد نكسة حزيران (يونيو) 1967، لم تجد أي تأثير لها، إذ تجاوزتها نزعة التغيير الفكرية والجمالية والشعرية، وغدت باهتة إزاءها، واضطرت إزاء ذلك الى التوقف الأخير». (الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية، إشراف د. عبدالإله بلقزيز، بيروت، 2011، ص870). وفي هذا الكتاب الشامل نفسه يتحدث الأديب الفلسطيني «فخري صالح نواهضة» في ورقة بعنوان «المتون الشعرية الكبرى المعاصرة» عن بعض أبرز هؤلاء الشعراء، بدر شاكر السياب، أدونيس، صلاح عبدالصبور، سعدي يوسف، أمل دنقل، محمود درويش... ولم يذكر الكثيرين! وكتب في هذا السفر المطول الناقد العراقي «ماجد السامرائي» فصلا بعنوان «تيار الشعر الحر: نازك الملائكة»، يقول فيه عن تطور شعرها: «من هنا أخذ دورها التجديدي يتراجع، وبتراجعه أخذ مدها الشعر المجدد ينحسر، ولعل من أهم ما أخذه المجددون، من شعراء ونقاد على «نازك»، كونها حصرت موقفها من «الشعر الحر» في تجربتها الشخصية، وفي حدود منجزها الشعري، وفي الفقرة الأخيرة من كلامه عن الشاعرة يوحي الناقد أن «الملائكة» ربما عادت على ما قالته في تجديد الشعر بالممحاة! يقول السامرائي عن الشاعرة إنها رأت أن للشعر ركنين ضروريين «لابد منهما في كل شعر: النظم الجيد- الشكل- أو الوزن، المحتوى الجميل الموحي، المتموج بالظلال الخافتة والإشعاع الغامض الذي تنتشي له النفس». ويضيف السامرائي ناقدا الشاعرة «إنها بمقدار ما أعطت لنفسها، أو دعت إليه من حرية تبدو مطلقة في مقدمة «شظايا ورماد»، إذ أقرت «اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية»، عادت لـ»توجه» الشعر و»تقيد» حريته، مؤكدة أن هذه الدعوة الجديدة منها إنما هي لمصلحة الشعر فنا، وليست ضده». (الثقافة العربية، ص 1032).
مشاركة :