وسائل الإعلام: فعلت أم لم تفعل شيئا! قناة الجزيرة القطرية صنعت نماذجها من بينهم راشد الغنوشي بوصفه الحنجرة العميقة في تونس ومجتمع الإسلام السياسي والمثير للمفارقة أن الغنوشي بعد الإطاحة به عبّر عن استيائه من وسائل الإعلام وحمّلها مسؤولية ما حصل. الجزيرة عاجزة عن حماية شخصيات صنعتها يمكن استعادة جملة عالم اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي "وضعت وسائل الإعلام النخبوية إطارا يعمل من خلاله الآخرون، هذا الإطار الذي يعمل بشكل جيد، من الواضح أنه مجرد انعكاس لهياكل السلطة". مع السؤال الذي غالبا ما يصعد إلى الواجهة مع كل حدث سياسي يحدث تغييرا جذريا، بأن وسائل الإعلام لم تفعل شيئا، تقابله أصوات أقل ثقة بكلامها بالقول: لا، إنها فعلت شيئا! علينا أن نفهم، أن كل واحد منا لديه رأيه بشأن فعلت أو لم تفعل شيئا وسائل الإعلام، لكن السؤال سيبقى قائما، وليس بمقدور أكبر المؤسسات الإعلامية عالية المسؤولية، أن تزعم أنها قادرة على الإجابة الحاسمة. تشومسكي يفسر ذلك في البناء على نموذج الدعاية للتواصل. بأن وسائل الإعلام الأميركية تسمح بالمناقشة الحماسية والنقد والمعارضة، طالما بقيت ضمن نظام الافتراضات والمبادئ التي تشكل إجماع النخبة، وهو نظام قوي للغاية بحيث يمكن استيعابه إلى حد كبير دون وعي. أو "صناعة الموافقة" لوصف تأثير وسائل الإعلام حسب تعبير الصحافي والكاتب الأميركي الراحل والتر ليبمان مبتكر مصطلح "الحرب الباردة". استفادت كثيرا قناة الجزيرة من هذا البناء وقدمت نموذج أعمال إعلامي للعالم العربي، فيما فشلت في نسختها الإنجليزية لأنها كررت ما هو متاح للمشاهد الغربي بوجود المئات من البدائل أمامه. مع ذلك لم تفلت الجزيرة من فخ السقوط المريع مع قوة الاستقطاب التي عملت عليها، كما يظهر ذلك في التهريج والصراخ وغياب الحساسية وعدم المسؤولية التي يمثلها برنامج "الاتجاه المعاكس". ثمة تعريف أكاديمي شائع لوسائل الإعلام "أعتقد بتنا اليوم بحاجة إلى تغييره" يقول "إن وسائل الإعلام هي جهات فاعلة تمارس سلطة على الخطاب" الأمر الذي يستحضر صورة معينة متعلق بطريقة أسود، أبيض، صحيح، خاطئ، مستقل، خاضع، خدمة سياسية مدفوعة الأجر، حرية تبادل المعلومات مع الجمهور. وتحضر مع كل هذا الكلام الشركات والأحزاب والقوى السياسية والحكومات التي تسيطر على وسائل الإعلام. ومثل هذا الحال مفيد بالنسبة إلى شيريل كينيدي هايدل أستاذة الصحافة في جامعة ولاية لويزيانا الأميركية، التي ترى أن مصطلح "وسائل الإعلام السائدة" يبقى مفيدا طالما أن الصحافة تعاني من مشكلة الاتفاق على مضمون الأخبار، بوجود أشخاص بأهداف ومواقف يمتلكون سلطة القرار، حتى الصحافيين لا يمكن لهم أن يصنعوا خطابا موحدا جامعا للرأي العام. بالطبع مثل هذا الرأي مختلف عليه، ولا يمكن لنا جميعا أن نتفق معه. وتبدو تسمية وسائل الإعلام السائدة "سائدة تعني عند البعض شعبية" ملتبسة وواسعة لدرجة لا يمكن أن تعني أي شيء. لأن جوهر فكرة الإعلام لم تبن على مراسل عشوائي قال جملة على تويتر وذهب، أو حتى برنامج تلفزيوني شهير يحظى بمتابعة مليونية. لا يمكن أن نقول إن الإعلام هو صحيفة نيويورك تايمز على أهميتها وانتشارها، ولا الغارديان البريطانية أو هيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي". علينا أن نفهم أن كل واحد منا لديه رأيه بشأن فعلت أو لم تفعل شيئا وسائل الإعلام، لكن السؤال سيبقى قائما، وليس بمقدور أكبر المؤسسات الإعلامية عالية المسؤولية أن تزعم أنها قادرة على الإجابة الحاسمة هذا ينطبق اليوم على قناة الجزيرة القطرية، وإن كانت الأكثر مشاهدة. ففي يوم ما كان الانطباع السائد أنها من صنعت ثورات الربيع العربي، لكنها اليوم وبكل تأثيرها تقف عاجزة خلف رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي الذي أطيح به، بعد قرارات الرئيس قيس سعيد بتجميد البرلمان وإقالة الحكومة. قناة الجزيرة القطرية صنعت نماذجها من بينهم الغنوشي بوصفه الحنجرة العميقة في تونس ومجتمع الإسلام السياسي، والمثير للمفارقة أن الغنوشي بعد الإطاحة به عبّر عن استيائه من وسائل الإعلام وحمّلها مسؤولية ما حصل في تونس! لذلك يبدو واضحا أن الذين يستخدمون عبارة "وسائل الإعلام الرئيسية" لديهم فقط فهم فضفاض مشترك للواقع، في أحسن الأحوال. ومع ذلك نستمر في استخدام المصطلح نفسه لوصف ظاهرة تبدو مؤكدة ومتجذرة، ولكنها في الواقع غير متبلورة. وتعزو سافانا جاكوبسون الكاتبة الأميركية المتخصصة في تحليل أنظمة الخطاب الإعلامي، التباس مصطلح "وسائل الإعلام السائدة" إلى نظام المعلومات الفوضوي الذي نحن فيه. فتدفق المعلومات اليوم يفوق حاجة وقدرة البشر على الاستقبال. ويشير مصطلح "وسائل الإعلام الرئيسية" أيضا إلى ما يجمع كل أنواع الصحافة ككيان واحد شرير. كما كتب جوناثان إم لاد في كتابه "لماذا يكره الأميركيون الإعلام" فوجود مؤسسة إخبارية مستقلة وقوية ومحترمة على نطاق واسع هو شذوذ تاريخي، وفق لاد. اليوم تستخدم قنوات إخبارية عربية ممولة من قبل الحكومات الخليجية، ذريعة أنها وسائل إعلام رئيسية والأكثر مشاهدة لتبرير تجاوزاتها. وحقيقة الأمر - لسوء حظ الجوهر المثالي للصحافة والجمهور - أن مثل هذا الواقع موجود في الولايات المتحدة ودول ديمقراطية عندما يتعلق الحال بقنوات إخبارية كبرى. فقد وجدت دراسة حديثة أجريت لحساب مشروع "ميديا إنسايت"، انقساما في القيم التي تتبناها الصحافة وعلاقتها بالجمهور، فبدلا من عدم الثقة بوسائل الإعلام التي ترتبط بمفهوم التحيز الحزبي، فإن المشكلة قد تكون في قلب أزمة الثقة بوسائل الإعلام، وتتجه الشكوك نحو الهدف الأساسي والمهمة التي يحاول الصحافيون تحقيقها في المقام الأول. هذا الأمر جعل الجمهور يتأرجح بين أنصاف الحقائق، مع طريقة الاشتراك في قنوات الكابل، وهو نوع من شراء ما نراه حقائق نرغب فيها دون غيرها، لأن لا أحد يدفع مالا مقابل الأكاذيب، وإلا لمَ دفعنا مالا مقابل مشاهدتها؟ ويتوفر لدينا أكثر من ذلك متمثلا بوكالات الأنباء رويترز ووكالة الصحافة الفرنسية وأسوشيتدبرس، بوصفها المصدر الأول في الصناعة الإخبارية والأكثر حساسية وعالية المسؤولية. لكن من البساطة بمكان لأي متلق أن يضع ثلاثة أخبار من تلك الوكالات تنقل ما حدث في تونس هذا الأسبوع ليكتشف أن أنصاف الحقائق سائدة بطريقة تكسر المبادئ المعلنة لهذه المؤسسات الإخبارية الكبرى. كرم نعمة كاتب عراقي مقيم في لندن
مشاركة :