واجهت الرواية منذ ظهورها انتقادات حادة تعيب عليها سرد وقائع “كاذبة”، أي مخالفة للواقع، حتى ظهرت أصوات تؤكّد أن الكذب هو سمتها الأساسية، بل إن “فن الرواية هو أن نعرف كيف نكذب” بعبارة لويس أراغون، أي أن جوهرها الإيهام بوجود عالم يرجع بالنظر إلى مخيال الكاتب. حين يقبل كاتب على تأليف رواية، فهو يبدع حكاية أو حكايات تنبع من الواقع ولكنها لا تعكسه تماما، بل تحيد عنه، ما يعني أنه يبتكر أشياء من وحي خياله، فيختلق “أكاذيب” توهم بأنها حقائق. هذه الرغبة في الوهم، كمعيار لميثاق أدبي يتقبّله القارئ طوعا، هو ما يميز السردية التخيلية عن السردية التاريخية؛ فالتاريخ يدّعي نقل الحقيقة، بينما التخييل يقترح وهم الواقع. ولئن كان الكذب في مفهومه إيهام المتلقي كتابة أم مشافهة بصدقية أمرٍ يعرف الباثّ أنه كذب، وأن نيّته محض تضليل، فإنه في الرواية، كما في الشعر، له مطمح جمالي. لا حقيقة ولا باطل الفرق واضح بين العالم الواقعي والعوالم السردية، فالأول يحكمه مبدأ الحق بينما يحكم العوالم الأخرى مبدأ الثقة جمالية “الكذب الصّادق” هذه، التي ابتدعها لويس أراغون، تحدّد الرواية ككتابة للواقع تنزاح عنه في نقل مظاهره وظواهره ومفرداته، فمن خصائص الحقيقة الروائية كما تقول نتالي بييغي غرو أنها تضع الكذب شرطا لها، ولكنه ليس كذبا بمعنى قول الباطل، بل قولُ ما ليس صحيحا، أي الانزياح عن الواقع. وقارئ الرواية لا يحسّ بالخيبة إلا متى اختلت كذبة الكاتب، ولم تعد في إطار عالمها المتخيل مقنعة، فهو يتقبل بمتعة كبيرة المهمة الكاذبة للتخييل، كما بيّن نيتشه في قوله “إن المتعة الفنية هي أكبر متعة، لأن الفنّ ينطق بالحقيقة عموما في شكلِ كذب”. أي أن الفن يتناول الواقع كوهم، ولا يقدّمه كخيبة، وبذلك يغدو الوهم حقيقيّا. فرويد أيضا يتحدث عن الحقيقة السردية كمعيار نستعمله كي نقرر ما إذا تمّ إدراك تجربة ما بكيفية مقنعة. هذا القرار يظل رهين مجمل الاسترسال والختام والنسق الذي تلتحم فيه مختلف العناصر السردية ضمن غائية جمالية، فإذا ما اكتسبت بنية ما حقيقة سردية، صارت نوعا آخر من الحقيقة. وهذا ما يقرّه أغلب النقاد والمنظرين، فأمبرتو إيكو مثلا لاحظ أن الاستعارة لا تنطق بالحقيقة أبدا، ما دامت تنتهك نظام الواقع وتعمل على إعادة تشكيله في نظام شعري للعالم، شأن الرواية أيضا في انتهاكها للواقع واقتراحها رؤية مخصوصة للعالم. يقول بيتر ماكورميك “فن الحكي، بخلاف الكذب، يوهم بأنّه كذلك دون أن يسعى إلى الخداع والتضليل، لكونه أقرب إلى الكوميديا من حِنث اليمين”؛ ذلك أن كاتب الرواية يتصنّع المرجعية، لأن طبيعة الجمل التخييلية لا تسمح له بسواها، فلئن كان كاتب سردية وثائقية يستطيع الاستناد إلى مرجعية ما، فإن كاتب الرواية لا يستطيع إلا التظاهر بذلك. كذلك موريس بلانشو حين أكّد أن الفنان لا ينتمي إلى الحقيقة، لأن أثره نفسه منفلتٌ عن حركة الصواب، بل ينبذها ويتملّص من معناها. هذا الإصرار على مبدأ الحقيقة التي تنفلت عن الفضاء الأدبي تناولها منظرون آخرون مثل تزيفتان تودوروف وكان يعتقد أن الجُمل التي تؤلّف النص الأدبي ليست أكثر صدقا ولا كذبا من سواها في المجالات الأخرى، فالنص في رأيه “لا يخضع لامتحان الحقيقة، لأنه ليس حقيقيا ولا باطلا، بل عمل تخييلي صرف”، ولأن الرواية تستكشف الواقع وتقترح عالم الممكنات، دون أن تزعم أنها هي العالم الممكن، ومن ثَمّ فهي بمنأى عن الصدق، لأن الروائي يُعمل خياله حين يبتدع أحداثا ومغامرات، تدفعه إلى الإمعان في نسج حكايات لا تتطابق بالضرورة مع الواقع. لعبة مشتركة التمثيل الأدبي يتوسّل بصور تربك العلاقة بين الدال والمدلول لتقودنا إلى حقائق ذواتنا والعالم التمثيل الأدبي يتوسّل بصور تربك العلاقة بين الدال والمدلول لتقودنا إلى حقائق ذواتنا والعالم الرواية “سيئة النية” بعبارة موريس بلانشو، وسوء النية هذا مشترك بين الكاتب والقارئ على حدّ سواء. سوء نية من الكاتب الذي يؤمن بشخصياته رغم أنه يختفي وراءها، وينظر إليها ككائنات يخلقها من عدم، ويجد في الكلمات التي يمسك بزمامها وسيلة التصرف في مصائرها، وهو يشعر في الوقت ذاته بأنها تنفلت منه؛ وسوء نيّة من القارئ الذي يَفتنه العمل إلى حدّ يتصور معه أن الرواية حقيقة، فيحلّ دون أن يشعر في إهاب البطل، ليعيش مدة ما تستغرقه قراءة الرواية حياة غيره. كلاهما يقف في الفضاء الملتبس للمخيال، أي أن الروائي يكذب والقارئ يقبل خداعه برحابة صدر، وهذا ما يجعل الفرق واضحا بين “العالم الواقعي” و”العوالم السردية”. العالم الأول يحكمه مبدأ الحق، بينما يحكم العوالم الأخرى مبدأ الثقة. والطريف أن الباث والمتلقي يعرفان ذلك، ولكنهما يمارسان معا دور الشريك في الكذب، الأول يختلق ويزيد، والثاني يبارك ويستزيد، وكلما كانت الكذبة جيّدة الحبك والسّبك، كان انتشاء المتلقي أكبر. التمثيل الأدبي الروائي والقارئ متفقان على الكذب الروائي والقارئ متفقان على الكذب لكن إذا سلمنا جدلا أن الرواية كعمل تخييلي، هي اختلاق وكذب، جاز لنا أن نقول إنه كذب يلامس الحقيقة. هذه المسألة ظلت محل خلاف منذ القدم، فأفلاطون يؤكّد أنّ كل أدبٍ كاذبٌ بالضرورة، بينما يرى أرسطو في الشعر بحثًا عن الحقيقة، وأمْثَلةً للواقع على نحو يُطهّر النفس. ثمّ جاءت النظريات الحديثة لتلغي زعم الأدب قول الحقيقة، فبعضهم يعتبره “نسيج أقوال لا يحيل إلا على نفسه” كما يقول بارْط، بينما يصر آخرون على أنه لم يتخل عن البحث عن الإمكانية التي يعبّر بها عن الحقيقي على طريقته، وأنه يغيّر رؤيتنا للعالم ويسمح لنا بأن نرى لأول مرة الظواهر التي كانت من قبل تتمنّع على إدراكنا، وأن النصّ السردي يعمل في الغالب على الكشف عن حقيقة أخرى، لا يتوقعها القارئ، ولكن اكتشافه إياها هو ما يحقق متعته. ثمّ إن المعرفة التي تبلغها الرواية ليست مقترحا، أي أنها ليست معروضة على طريقة إيضاح منطقي، ولا استدلالي، فلئن كان صحيحا أنها تتحدث عن العالم، فإنها تتحدث عنه بطريقة غير مباشرة، منقولة من وضع إلى وضع. ذلك أن التمثيل الأدبي يتوسّل بالصور التي تربك العلاقة بين الدالّ والمدلول كي تقودنا إلى حقائق عن ذواتنا أو عن العالم، حقائق ليست سارّة ولا مريحة، ما يجعل وعينا يكبتها في الغالب. وحسبنا أن نتوقف عند الأعمال الكبرى لندرك أن الكثافة التصويرية للغة تضفي على تلك الحقائق قوة إقناع ما كانت لتتسم بها لو صيغت في لغة الشرح والإيضاح العلمية. ومجمل القول إن الرواية، رغم كونها من وحي الخيال، لا تعدم حقيقة، وإن هذه الحقيقة غالبا ما تكون كامنة حيث لا يتوقعها القارئ، فهي تختار استراتيجيات مختلفة، وسبلا غير منتظرة لبلوغ غايتها، ولذلك ينبغي البحث عنها بمعزل عن الأيديولوجيات المعلنة، لأنها تندسّ في تلافيف البنى التي يقوم عليها كل خطاب أدبي.
مشاركة :