حتى لا تضيع في الحيّ

  • 10/17/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

مضى عام على حصول الكاتب الفرنسي «باتريك موديانو» على جائزة نوبل العتيدة. فمنذ حصول كاتب «ذاكرة التفاصيل» وبي رغبة شديدة في الاقتراب من عالمه، وتأمل ما جسده من شخصيات حيث كان يبدع هذا العالم باعتباره عبئاً عليه، ولم يكن يوماً مصدراً لمتعة، أو بهجة، أو حتى عالماً مفتوحاً على سؤال، كما أن الكتابة بالنسبة لهذا الكاتب شيء صعب لا نظير لصعوبته، وكان دائماً ما يقول: «إننا نمارسها ونحن وحدنا، لا يوجد أمامك انسان ينتظر استجابة لما تقول». اكتشفت «موديانو» في العام 1988، عندما نشرت له دار الهلال بالقاهرة روايته التي حصل بسببها على جائزة «الجنكور» الفرنسية «شارع الحوانيت المعتمة» ذلك النص الفني المحكم، الذي شعرت بضربة قوية على الرأس بمجرد الانتهاء من قراءته!! عالم سهل وواضح، يحمل لافتة ثابتة، أنه لا شيء يهم في هذا العالم، حتى وبطل روايته المنشغل بالبحث عن جذوره في مدينة تزدحم بالظلال الغامضة، وبغير المرئي، وأنه ثمة خطر هناك أنت لا تراه ولكنك تتنفسه وتشعر به طوال الوقت!! في الظاهر، تبدو أعمال «موديانو» واضحة، ولكنك كلما خبرته، وغصت في تفاصيله أصابتك الحيرة، واكتنفك الغموض، وشعرت كلما تواصلت مع تفاصيل هذا العالم بالتهديد المفعم بالقلق والخوف من أن ثمة شيء هناك سوف يحدث، وربما لا يحدث..!! انشغال بمخلوقات المدن (نساءً ورجالاً) ، وحتى أشياء هذا العالم (مقاهي وزوايا وحوانيت وأزقة غامضة وأماكن غريبة تجتمع نسوة بلا ملامح في ضواحي معتمة وساكنة، بسبب من كل هذا يدهمك السؤال عند قراءته: من هو هذا الكاتب الذي منحته لجنة نوبل أكبر جوائزها؟ بعد محاولات للاقتراب منه، والتعرف على بعض ملامح من عوالمه، وقراءة ما ترجم من أعماله، وما نشر عنه وسط صخب الجائزة، اكتشفت أن «موديانو»: رجل يميل للصمت، ويكره الأضواء، منطوياً على نفسه إلى حد الحزن. وأن والده كان يهودياً، خائناً لوطنه ولأبناء جماعته من اليهود، وظل يخفي أصوله اليهودية، خوفاً من أن يتعرض لإيذاء النازي، حيث يقوم بالتعاون مع الجستابو في أعمال مريبة كأحد عتاة الخونة. عاش «موديانو» محملاً بذلك (الإرث الأصيل والخيانة والإحساس الدائم بالاضطهاد)، وظل منشغلاً في أدبه بتتبع هؤلاء الذين اختفوا، وتلاشوا، أو اجبروا على أن يضيعوا فى التاريخ. حين تغوص في «موديانو» فثمة إحساس يراودك عن شخصياته كأنهم جماعة ينتمون لبعضهم، أو أنهم أبناء محفل واحد، أو أن جميعهم يعيشون على بعد أمتار، هناك بالقرب من تلك الظلال التي تغمر زوايا الشارع والحوانيت!! كما أن هذا الكاتب قد أمضى حياته ينشغل بأحلام العجائز، وفتيات الليل، وهؤلاء الغرباء الذين يحيون في الضواحي وبالقرب من الحدائق، والذين يميلون للثرثرة، وربما للهمس. هذا العالم الغريب نسجه الكاتب مستوحياً تفاصيله من الحقبة النازية التي تسكنه، فلقد ولد الكاتب في أواخرها إلا أن أحداثها، وأفعال والده التي لا تمحى ظلت تحرك وعيه وخياله وزلزلت بأعماقه الايمان والانتماء واليقين بيهودية معرفة يحملها من يؤمن بها بين عينيه. كانت حياة مضطربة بين أم تعمل بالسينما، وأب غائب طوال الوقت وربما هارب في رحلة إلى الإسكندرية، ومختفياً بريبة عن العالم. عن عالمه هذا، كتب «موديانو» العديد من الرويات التي تحمل روح القصة القصيرة، وتحمل في مضامينها ما قيل عن عالمه يوماً: أنه عالم يقع في تلك المنطقة من الافصاح والتخفي، وإلغاء المساحة بين الصمت والكلام لبشر يعيشون ماضيهم الأكثر قسوة، ذلك الماضي الذي نستطيع أن نطلق عليه «ماضي الذاكرة». هذا العالم الفني الذي جعل من ذلك الكاتب صاحب منطقة خاصة جداً مثلما كان لكافكا وهيمنجواى وكاثرين مانسفيلد، عالم يدفعك للتعرف على كينونته المنسوجة بلغة تتخفف من ثقل البلاغة، واستحضار المواقف الفلسفية، أو اعتساف أبنية من السرد تربك المتلقي، لكنها كما تبدو عوالم مثل الموسيقى تنبع من أعماله عبر شرفة تطل على حديقة في الخريف. كتب «موديانو» ما يزيد على عشرين عملاً. روايات قصيرة، كلها تحمل نفس همومه المعتادة، ونفس الألم المضني تعبيراً عن عالم يخصه، ظل ينسجه وحيداً، وبعيداً عن الميديا التي لم يطرق أبوبها أبدًا، ولم يسع اليها حاملاً كتاباً من كتبه، تلك الكتب التي تحمل عناوين: عشب الليالي. في مقهى الشباب الضائع – دائرة الليل – الأفق – شارع الحوانيت المعتمة – مجهولات – المنزل الحزين – مستودع الذاكرة.. الخ.. الخ.. الخ

مشاركة :