في الخامس والعشرين من يوليو 2021 خلال استعراض عسكري ضخم أقيم في مدينة سان بطرسبورج بمناسبة مرور الذكرى الـ325 على تأسيس الأسطول الروسي قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن «موسكو بات بمقدروها توجيه ضربة حتمية إلى أي عدو محتمل» وأضاف أن روسيا «نجحت خلال فترة وجيزة في تضييق الهوة التي كانت تفصلها عن قدرات دول أخرى وباتت تحتل مرتبة مهمة بين الدول البحرية الكبرى» وكان لافتا قول الرئيس بوتين إن «روسيا قادرة على الكشف عن أي تحرك للعدو مهما كانت طبيعته أو مصدره»، وواقع الأمر أن تلك التصريحات لا تخلو من دلالات كونها تتجاوز الطابع الاحتفالي البروتوكولي لتزامنها مع عدد من التطورات المهمة على صعيد التنافس الدولي في البحار عموما ونقاط التماس الاستراتيجي على نحو خاص، ذلك التنافس الذي سوف ينعكس بلا شك على منطقة الشرق الأوسط عموما، فضلاً عن كونه يمثل تحديا هائلا للدول البحرية التي أولت تطوير قدراتها البحرية اهتماما بالغا خلال السنوات القليلة الماضية. بنظرة فاحصة على استراتيجيات الدول الكبرى والمنظمات الدفاعية خلال السنوات الماضية نجد أن الأمن البحري كان في بؤرتها ابتداء بإعلان حلف شمال الأطلسي «الناتو» استراتيجية متكاملة للحفاظ على الأمن البحري في عام 2011 مرورا بخطة الولايات المتحدة الأمريكية لتطوير القوات البحرية التي أعلنها وزير الدفاع السابق مارك أسبر في سبتمبر 2020 بعنوان «المستقبل إلى الأمام» ومضمونها زيادة عدد السفن الأمريكية وتطوير أداء الأساطيل البحرية والتأكيد على أن الهدف من تلك الخطة هو مواجهة الصين أولاً ثم روسيا ثانيا، فضلاً عن إعلان بريطانيا خطتها الدفاعية في مارس 2021 التي تستهدف في جزء منها زيادة السفن والغواصات والبحارة وتحويل مشاة البحرية الملكية إلى وحدة جديدة ستكون مهمتها حماية ممرات الإبحار والحفاظ على حرية الملاحة. وإقليميا لم تكن الدول المحورية بعيدة عن تطوير قدراتها البحرية ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر تأسيس مصر قاعدتين بحريتين في أقل من عامين الأولى: قاعدة برنيس الجوية البحرية على البحر الأحمر جنوبا في يناير 2020، والثانية: قاعدة 3 يوليو البحرية على الساحل الشمالي الغربي لمصر في يوليو 2021، بالإضافة إلى تنامي اهتمام المملكة العربية السعودية بتطوير قدراتها البحرية سواء من خلال شراء الزوارق البحرية الفرنسية، فضلاً عن إعلان القوات البحرية الملكية السعودية في 25 يوليو 2021 تعويم السفينة الرابعة «جازان» وذلك ضمن مشروع «السروات» بالتعاون مع إحدى الشركات الإسبانية، والذي يضم أربع سفن تتضمن أحدث الأنظمة القتالية للتعامل مع كل تهديدات الأمن البحري، كما أنها سوف تسهم في حماية المصالح البحرية للمملكة العربية السعودية، وبشكل مواز تردد أن إيران تقوم ببناء قاعدة بحرية في المحيط الهندي في يوليو 2020. وعلى الرغم من أن ذلك الاهتمام العالمي والإقليمي بتعزيز القدرات البحرية للدول من شأنه مواجهة تهديدات الأمن البحري المتنامية، فإنه في الوقت ذاته يعد جزءًا من إرهاصات حرب باردة بين الدول الكبرى ستكون البحار ساحة لها ويعزز من هذا الطرح ثلاثة مؤشرات: الأول: سعي روسيا لتأسيس مركز لوجستي للقوات البحرية الروسية في السودان وعلى الرغم من نفي المسؤولين في السودان التوصل إلى اتفاق نهائي في هذا الأمر إذ لايزال الأمر محل تفاوض - حتى كتابة هذه السطور - فإن ذلك الأمر يعد جزءا من تنافس روسي غربي في نقاط استراتيجية، ففي مارس من العام الحالي لوحظ وصول المدمرة الأمريكية «يو إس إس ونستون تشرشل» إلى ميناء بورتسودان السوداني على البحر الأحمر التي تعد أول سفينة أمريكية ترسو في السودان منذ عقود، وذلك بعد أربع وعشرين ساعة فقط من وصول الفرقاطة الروسية الأدميرال غريغوروفتش لنفس الميناء، والثاني: وقوع احتكاك بحري في يونيو2021 بين السفن الروسية والطائرات والسفن الغربية في منطقة البحر الأسود، وذلك عندما اقتربت مدمرة بريطانية إلى نحو مسافة 3 كم من القرم ودخول المياه الإقليمية لروسيا - وفقا لما صدر عن موسكو بهذا الشأن - في الوقت الذي أكدت فيه التصريحات الرسمية البريطانية أن السفينة كانت تمر في معبر مائي دولي في البحر الأسود، والثالث: إعلان فرنسا في يوليو 2020 تعليق مشاركتها في العمليات البحرية لحلف الناتو في البحر المتوسط بعد مواجهة مع سفينة حربية تركية، وعلى الرغم من كون الأمر بين دولتين في حلف الناتو فإن ذلك يعني أن منطقة البحر المتوسط وهي الضلع الثالث من المثلث الذي يتضمنه المقال «القرم - إفريقيا - البحر المتوسط» قد أضحى مجالاً لحوادث احتكاك بحري على نحو متزايد. وفي تصوري أن تلك أمثلة وليس على سبيل الحصر فبحر الصين الجنوبي يمثل المثال الأبرز ليس فقط للحرب الباردة البحرية بل لتحالفات وتحالفات مضادة بل إنه كان سببا في تغيير الاستراتيجيات الدفاعية الغربية التي وضعت الصين وروسيا كتحدٍ خلال السنوات القادمة. وربما يقول البعض إنه بالنظر إلى خبرة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق لاتزال هناك أسس وقواعد عقلانية لإدارة الصراعات وتقدم أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 نموذجا واضحا على ذلك، وقد يكون ذلك الرأي صحيحا، ولكن ليس على إطلاقه لثلاثة أسباب الأول: أن الصراع البحري ذو طبيعة مختلفة للغاية لأن العمل يكون في مساحات هائلة مفتوحة، صحيح أنه يوجد قانون بحري يتمثل في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار1982 ولكن من يجبر الدول على احترام بنودها؟، والثاني: أن البحار كانت- ولاتزال - ركيزة أساسية لتحقيق النفوذ بل إن البحار تعكس واقع القوة غير المتكافئة للدول حيث لا توجد بدائل للدولة في المواجهات البحرية يمكن من خلالها تعزيز خططها على غرار المعارك البرية، والثالث: أن تأثير الصراعات في البحار أو حتى الحوادث البحرية لا يرتبط بالأطراف المباشرة له في ظل زيادة الاعتماد على البحار خلال السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ واحتوائها على شرايين حيوية للتجارة الدولية وجميعها تقع في نقاط أطلق عليها الباحثون «نقاط الاختناق البحري» تمر من خلالها ناقلات تجارية كبيرة، ما يجعلها عرضة للاستهداف من جانب جماعات إرهابية تستخدم زوارق سريعة ومجهزة ويصعب اقتفاء أثرها. ويعني ما سبق حقيقة مفادها أن العالم يشهد صراعا وتنافسا بحريا على نحو غير مسبوق تختلط فيه العديد من الأوراق وتعمل الدول لحماية مصالحها البحرية على مسارين متوازيين الأول: تطوير قدراتها البحرية، والثاني: الائتلاف ضمن تحالفات لحماية تهديدات الأمن البحري، ومع أهمية ذلك فإنه في رأيي هناك حاجة إلى قمة عالمية للأمن البحري برعاية الأمم المتحدة لبحث تهديدات الأمن البحري وتحديد آليات جماعية لمواجهتها. } مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :