بعد انقسام أوكرانيا وضمّ شبه جزيرة القرم الى روسيا أصبحت الحرب الباردة الجديدة (كما في خمسينات وستينات القرن الماضي) تظهر في المناطق التي يسهل فيها تسجيل تغيرات أو ضربات توجع الطرف الآخر. ومن هذه المناطق يتحول البلقان الى ساحة مهمة بحكم العلاقة التاريخية بين روسيا والدول السلافية الأرثوذكسية (صربيا والجبل الأسود وبلغاريا ومقدونيا) والاستثمارات الروسية الجديدة في اقتصادات الطاقة في هذه الدول وبحكم نجاحات الولايات المتحدة في اختراق الدول المجاورة ذات الغالبية الكاثوليكية - المسلمة (كرواتيا والبوسنة وألبانيا وكوسوفو) ذات المكانة الإستراتيجية المهمة لعزل روسيا البوتونية من الوصول الى حوض الأدرياتيكي. حالة الجبل الأسود مع أن جمهورية الجبل الأسود صغيرة المساحة (13.812 كيلومتر مربع) وقليلة السكان (أقل من مليون نسمة) إلا أن موقعها الجبلي المطل على البحر الأدرياتيكي جعلها مهمة عبر التاريخ بعد أن استقرت فيها القبائل السلافية الجنوبية (اليوغسلافية) في القرون الوسطى وأضحت إمارة تابعة لبيزنطة في القرن الثامن باسم «دوكليا» ثم استقلت في القرن الحادي عشر باسم «زيتا» وتولّت الحكم فيها أسر صربية نبيلة (تسرنوفيتش وبتروفيتش) حيث اشتهرت باسمها الجديد الجبل الأسود أو مونتنيغرو. ومع أن العثمانيين أخضعوها في نهاية القرن الخامس عشر إلا أنها سرعان ما تحولت الى نواة للحركة الداعية الى تحرر سلاف الجنوب من الحكم العثماني وارتبطت لأجل ذلك بروسيا القيصرية التي ساعدتها بالمال والسلاح على نيل الاستقلال مع صربيا عن الدولة العثمانية في 1878. وفي هذا السياق برز التنافس بين صربيا والجبل الأسود على تزعم الحركة الداعية الى استكمال تحرير سلاف الجنوب - اليوغوسلاف من الحكم العثماني، وهو ما انتهى في 1912 - 1913 بتحالفهما في حرب البلقان واقتسام المناطق التي أنهوا فيها الحكم العثماني. ولكن هذا التنافس انتهى في 1918 الى غلبة بلغراد التي أصبحت عاصمة الدولة الكبيرة «مملكة الصرب والكروات والسلوفين» (يوغسلافيا لاحقاً). ومع فشل يوغسلافيا الملكية، التي كانت تنظر إلى سكان الجبل الأسود باعتبارهم من الصرب، جاءت يوغسلافيا التيتوية لتعيد الاعتبار الى «جمهورية الجبل الأسود» بحدودها التاريخية وتغذي نزعة الهوية الجبل أسودية (المونتنيغرية) المتميزة عن الصرب. وبعد وفاة تيتو وتصدّع يوغسلافيا برز رجل الغرب الجديد ميلو جوكانوفيتش الذي لم يمانع بتدخل حلف الأطلسي في 1999 وقصف جمهورية صربيا (التي بقيت مع الجبل الأسود تمثل ما بقي من يوغسلافيا الفيديرالية) والانسحاب التدريجي من يوغسلافيا الى أن تمّ له ذلك بتنظيم استفتاء على الاستقلال في 2006 صوّت فيه 55.5 في المئة من السكان على الاستقلال وعارضه حوالى 30 في المئة من الصرب الموجودين في هذه الجمهورية. ومع هذا الاستقلال توجهت قيادة الدولة الجديدة إلى مزيد من الخصخصة والانفتاح على جذب الرساميل والاستثمارات الأجنبية في السياحة، وهو ما وافق قدوم الأغنياء الروس الجدد وغيرهم للاستقرار والاستثمار في هذه الدولة الساحلية الجميلة. ولكن هذه العلاقة التاريخية - الجديدة مع روسيا أخذت تتأثر بأجواء الحرب الباردة الجديدة منذ 2013 وخصوصاً في الشهور الأخيرة. فعشية احتفال جمهورية الجبل الأسود بالذكرى العاشرة للاستفتاء على الاستقلال في 21 أيار (مايو) المنصرم قام أعضاء حلف شمال الأطلسي الـ 28 بالتوقيع على بروتوكول لقبول جمهورية الجبل الأسود عضواً جديداً في الحلف، وهو ما يمكن أن يتحقق حتى نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2017. ولكن الردّ الروسي جاء سريعاً ومنذراً على لسان ماريا زاخاروفا الناطقة باسم وزارة الخارجية حيث قالت إن «جذب الجبل الأسود الى حلف شمال الأطلسي لن يمر من دون رد فعل». حالة صربيا وفي انتظار ردّ الفعل عقد الحلف اجتماع المجلس البرلماني في ألبانيا خلال الأيام الأخيرة من أيار المنصرم، حيث تمّ فيه التأكيد على التوجه لضمّ الجبل الأسود الى الحلف من دون الالتفات الى التحذير الروسي. وفي خطوة أكثر استفزازاً لموسكو طالب رئيس الحكومة الألبانية إدي راما بضم كوسوفو المجاورة الى الحلــف أيضاً، وهي التي لا تزال في الدستور الصربي تعتبر «جزءاً لا يتجزأ من صربيا». وفيمـا لو سلّمت موسكو افتراضاً بانضمام الجـــبل الأسود الى الحلف، مع قدرتها على إزعـــاج قيادة الدولة بسحب الاستثمارات الروسية وتحريض المعارضة الصربية ضــد جوكانوفيتش المتهم بالفساد والنأي بالدولة عن علاقتها التاريخية مع صربيا وروسيا، فإنها لن تتساهل مع صربيا التي تعتبرها القلعة الأخيرة لها في البلقان. وكانت موسكو عززت نفوذها في صربيا مع الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت هناك خلال الشهر الماضي، حيث تحولت الحملة الانتخابية الى مناسبة لقياس التوجهات الجديدة ازاء روسيا. فمع أن الحزب الحاكم (حزب التقدم الصربي) برئاسة ألكسندر فوتشيتش يقـود صــربـيا نحـــو الانضمام الى الاتحاد الأوروبي إلا أن ماضي فوتشيش القريب (وزير إعلام صربيا الميلوشيفية الذي دان بقوة عام 1999 «العدوان الأطلسي») لا يختلف عــن شريك ميلوشيفيتش آنذاك فــي الحكــم فويشلاف شيشـل رئيس الحزب الراديكالــــي الصربي الذي زار آنذاك العراق ودان مع الرئيس صدام حسين «العدوان الأطلسي» على صـــــربيا. ولكن المفاجــــأة كانــــت في أن شيـــل المتهم بارتكاب جرائم حرب في لاهاي أعلنت براءته عشية الانتخــــابات في صربيا ليقود حملة عنيفة ضــــد فوتشيش الذي «باع» صربيا للغرب وضــد انضمام صربيا الى الاتحاد الأوروبي لكي تبقــى صربيا على علاقتها وشراكتها الإستـــراتيجية مع روسيا. ومع الإعلان عن النتــائـــج جاءت المفاجأة الكبرى في حلول حـــزب شيشل القومي المتطرف المرتبة الثالثة في البرلمان الصربي الجديد (22 مقعداً) بعد حزب التقدم الصربي (131 مقعداً) والحزب الاشتراكي الصربي الذي أسسه ميلوشيفيتش (29 مقعداً). وعبّر عن هذه المشاعر الجديدة ازاء روسيا نيناد بوبوفيتش رئيس الحزب الشعبي الصربي حين قال لمناسبة يوم النصر إن روسيا قدمت لصربيا «مالم يقدمه أي حليف آخر» ووفرت المساعدة لصربيا «في أصعب اللحظات التاريخية»، ولذلك إن «الصداقة مع روسيا ممتدة الى اليوم، حيث تقدّم لنا الآن روسيا دعماً سياسياً لحماية مصالحنا القومية المفصلية في كوسوفو وجمهورية الصرب في البوسنة»، أي أن الموقف الروسي لم يعد يتعلق بصربيا ضمن حدوددها الدولية المعروفة بل بالمجال الحيوي لصربيا الذي يهم روسيا بطبيعة الحال كساحة من ساحات الحرب الباردة الجديدة. وفي انتظار «رد الفعل» الذي وعدت أو أنذرت به موسكو الغرب في حال ضم الجبل الأسود إلى حلف الأطلسي تبقى صربيا القلعة الأخيرة لروسيا البوتينية في البلقان والتي لا يقتصر نفوذها على حدودها الدولية بل حيثما يوجد الصرب بتأثير فاعل (البوسنة والجبل الأسود وكوسوفو).
مشاركة :