في الشهر الأول للاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 التقيتُ في القاهرة رئيس تحرير إحدى المجلات المصرية، وسألني عن الشأن العراقي بعد سقوط النظام السابق، فقلت إن الشعب العراقي يخشى اليوم التالي من هذه الحرب المبنية على مجموعة من الأكاذيب التي نسجتها المعارضة العراقية السابقة وصدّقتها المخابرات المركزية الأميركية ووزارة الدفاع، صعوداً إلى البيت الأبيض والرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن الذي تحمس لها، ليس لتأكده منها، وإنما لأنه كان يريد أن يصدقها حتى من دون أي دليل عملي سواء من منظمة الطاقة الذرية أو المفتشين الأجانب الذين كانوا يصولون ويجولون طوال أكثر من عشر سنوات في العراق من الشمال إلى الجنوب، وبينهم عدد كبير من الخبراء الأميركيين الذين أكدوا أنهم لم يعثروا على أي أسلحة دمار شامل لا نووية ولا كيماوية ولا جرثومية ولا صاروخية. لم يترك هؤلاء المفتشون موقعاً حكومياً مشتبهاً به، سواء كان المستشفيات أو مختبرات الجامعات أو نهرَي دجلة والفرات أو البساتين. وقد رافقتُ بعضهم في تلك الجولات بحكم عملي الصحافي، ويعرف المعنيون أنهم فتشوا حتى القصور الرئاسية وغرفة نوم الرئيس الراحل صدام حسين. ربما كانت تلك الحملة التفتيشية أكبر حملة في التاريخ من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية حين فتش التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ألمانيا شبراً شبراً بحثاً عن أسلحة محرمة أو قادة عسكريين نازيين هاربين. ردّ عليّ رئيس التحرير قائلاً: «ستجعل أميركا من العراق يابان أخرى أو ألمانيا ثانية في تقدمهما وازدهارهما ورفاهيتهما». قلت إن اليابان كانت متقدمة ومزدهرة قبل الحرب. ولولا القنبلتان النوويتان الأميركيتان لكسبت طوكيو الحرب بعد كارثة ميناء بيرل هاربر. ولولا استسلام اليابان بعد دمار هيروشيما وناغازاكي، لما انهارت ألمانيا التي كانت تجتاح العالم، وما زالت، بصناعاتها الدقيقة والرائعة. ولا ننسى أن الموسيقى الألمانية كانت سيدة الأوبرا على أصابع بتهوفن وشوبان وفاغنر وهانديل وباخ وبرامز ومندلسن في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر حين كانت الولايات المتحدة لم تدخل التاريخ بعد. ولعلم غير العراقيين فإن الجيش الأميركي الذي احتل العراق منذ 2003 لم يشيّد كوخاً واحداً في أي قرية ولا أقام مولد كهرباء ولا محطة مياه ولا مستوصفاً ولا مدرسة للأطفال أو داراً للعجزة. بعد 18 عاماً على حرب «الصدمة والرعب» من الاحتلال الأميركي إلى الاستيطان الإيراني، زار مصطفى الكاظمي البيت الأبيض بدعوة من الرئيس بايدن، وكان قد زار البيت الأبيض للمرة الأولى في ولاية ترمب. وقبل أن يفتح الكاظمي فمه، سأله بايدن: «هل أنت جاهز؟» وفي الولايات المتحدة هذا السؤال تقليدي لبدء مباراة أو إلقاء كلمة أو افتتاح جلسة أو تشغيل كاميرا. هز الكاظمي رأسه مع ضحكة عريضة، كما شاهدنا في التلفزيون. «جاهز لأي شيء سيادة الرئيس؟» رد بايدن: «للحديث عمّا يجري في العراق طبعاً مستر كاظمي، ما هذا الذي يحدث في العراق؟» يضحك الكاظمي مرة أخرى من سهولة السؤال الأصعب. ويجيب رئيس الوزراء العراقي: «الحمد لله قمنا بحملة تلقيح واسعة للشعب العراقي ضد (كورونا) وأرقام الضحايا بدأت تقل». طبعاً ما يقوله المسؤولون العراقيون في بغداد ليس ما يقولونه في واشنطن. والكاظمي لم يذهب إلى مستشفى اليرموك في بغداد ليشاهد على الطبيعة الجثث المغطاة في ساحة العزل أو يسمع أنين المرضى الباحثين عن نسمة أكسجين، ولا يعرف أسى الأطباء الذين يرون المرضى يموتون أمامهم وليس لديهم ما يفعلونه بسبب انقطاع الكهرباء وعدم توفر أسِرّة كافية لنوم المرضى الراقدين على الأرض كما تعودوا في الزيارات الدينية. الهمّ الأول لدى الكاظمي كان أن يقول كلمتين للرئيس بايدن عن رغبة الحكومة العراقية في تلبية مطالب الميليشيات الموالية لإيران بإخراج القوات الأميركية من العراق. لكنه لم يتحدث عن مطالب الشباب العراقي باسترداد وطنهم من المحتلين الأميركيين والإيرانيين وتوفير الوظائف والكهرباء ومياه الشرب، فهذه مطالب «كمالية» و«ترفيهية» تحتاج الحكومة إلى عشرين عاماً أخرى قبل أن تفكر في توفير بعضها إذا استمر الحال على هذا المنوال. وعلى عُهدة صحيفة «نيويورك تايمز» فإن وزارة الدفاع الأميركية مستعدة لسحب بعض قواتها من القواعد العراقية، وستُبقي بقية القوات إلى نهاية العام الحالي. وذكرت الصحيفة أن هذه «الجائزة السياسية الموعودة» أخذها مصطفى الكاظمي إلى بغداد، لإرضاء الفصائل المسلحة الموالية لإيران، بينما سيظل الوجود العسكري الأميركي في العراق كأن شيئاً لم يحدث. يعرف كل السياسيين العراقيين أنهم يتمنون في قرارة نفوسهم بقاء قوات فاعلة أميركية سنوات أخرى في العراق، وأمامهم درس أفغانستان الحالي وعودة حركة «طالبان» إلى العاصمة الأفغانية كابل مع أول طائرة تقلّ جنوداً أميركيين عائدين إلى بلادهم بعد 20 عاماً من الغزو والاحتلال الأميركي في أعقاب إسقاط برجي التجارة العالمي في نيويورك على أيدي أعضاء في تنظيم «القاعدة». في الواقع الاضطرابات في هذا البلد الآسيوي بدأت منذ سقوط النظام الملكي فيه عام 1973 بعد سفر الملك محمد ظاهر شاه إلى إيطاليا لعلاج عينيه، فانقلب على الحكم ابن عمه محمد داود خان وألغى الملكية وأقام النظام الجمهوري. وانفرطت بعد ذلك مسبحة الاستقرار على أيدي دول الجوار والميليشيات والعصابات إلى أن وصلنا إلى تنظيم «القاعدة» و«طالبان» وبن لادن. وبقية القصة معروفة، كما حدث بعد ذلك بثلاث سنوات في العراق. نعود إلى الموضوع: لا تصدقوا أن واحداً من السياسيين العراقيين الحاكمين اليوم في بغداد يرغب في قرارة نفسه بخروج الجنود الأميركيين من العراق، لأنه يعرف أن كرة الثلج لن تظل في مكانها وستتدحرج من أعلى جبل في شمال العراق وهو جبل «شيخا دار» إلى الفاو في الجنوب. وكان مصطفى الكاظمي قد أعلن قبل سفره إلى واشنطن في تصريح لوكالة «أسوشييتد برس» أن العراق سيظل يطلب التدريب الأميركي والمعلومات الاستخبارية العسكرية، لكنه لا يحتاج إلى وجود أي قوات أجنبية قتالية على الأراضي العراقية، ثم استدرك قائلاً إن أي جدول زمني للانسحاب «يجب أن يستند إلى احتياجات القوات العراقية». لكن الكاظمي لا يرى الميليشيات الموالية لإيران والتابعة لفيلق القدس الإيراني قوات أجنبية، فهي تسرح وتمرح وتغتال وتنهب النفط والرسوم الجمركية وميزانية العراق وتحتل الوزارات التي تختارها ذات الموازنات الضخمة والعائدات الكبيرة. وكما قالت مجلة «فورين بولسي»: «إن محاولة إخراج القوات الأميركية هي أولوية إيرانية وليست عراقية». ويخشى الكاظمي أن يتعرض العراق، كما قال، إلى مصير مماثل لأفغانستان حالياً. والحكومة العراقية في حيص بيص بين إخراج الأميركيين من البلاد وانهيار النظام العراقي الحالي، وسط اضطرابات أمنية متوقعة داخلية وحدودية وميليشياوية واقتصادية. باختصار: سمعنا أن الولايات المتحدة قررت إنهاء «المهمة القتالية للجنود الأميركيين في العراق في نهاية ديسمبر (كانون الأول) المقبل، واقتصار عمل ما يتبقى من القوات غير القتالية على مهمتي التدريب والمشورة للجيش العراقي». وقد استقبلت الميليشيات الموالية لإيران الكاظمي قبيل عودته من واشنطن بإطلاق صاروخين على المنطقة الخضراء تعبيراً عن عدم ارتياحها لنتائج زيارة الكاظمي، في الوقت الذي أشار فيه مراقبون سياسيون إلى أن المهمة التدريبية للقوات العراقية تتطلب إرسال مزيد من القوات الأميركية إلى العراق كجزء من المهمة التدريبية الموسعة لحلف شمال الأطلسي «ناتو» بالإضافة إلى وجود شركات أجنبية عاملة في البلد في المجالات الأمنية والإدارات الدبلوماسية. لكن هناك في النهاية، كما تقول حكمة يونانية قديمة، مَن يطرق الباب بيدٍ من حديد.
مشاركة :