لماذا لا يفعلها الرئيسان العراقيان؟ ما حدث في تونس لا يمكن أن يتكرر في العراق، سواء كان برهم صالح أو مصطفى الكاظمي في مكان قيس سعيّد. أمل في محيط من التشاؤم كاد العراقيون أن يكونوا أكثر شعوب الشرق والغرب فرحا وحماسة ومحبة لقرارات الرئيس التونسي الأخيرة التي اعتبروها معركة جديدة فاصلة موفّقة من معارك الخلاص من أحزاب الإسلام الجهادي التي لم تقدم لهم، خصوصا حين تهيمن على الحكم، سوى الظلم والقمع والتآمر والاحتيال والاستغلال. ودون مبالغة، كانت حماسة الشعب العراقي لتلك القرارات أكثر من حماسة الشعب التونسي نفسه، وكأن قرارات الرئيس سعيّد انتصارٌ له على أعدائه، وكأن تونس هي العراق، وكأن الرئيس قيس سعيد هو رئيس العراق. وبتدقيق أغلب تعليقات العراقيين وتغريداتهم على صفحات التواصل الاجتماعي، ومتابعة تصريحاتهم على الفضائيات العربية غير المنحازة إلى الإسلام الجهادي، يتبيّن أن أغلب الفرحين المتفائلين بقرب نهاية حركة نهضة راشد الغنوشي عاتبوا الرئيس العراقي برهم صالح وصديقه رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي، وطالبوهما بأن ينفُضا عن كاهلهما غبار المحاصصة، وينهضا لخوض المعركة حتى النهاية ضد الفساد والظلم والجريمة والتزوير والاختلاس والعمالة للأجنبي. بل إن بعضا من المعلقين والمغردين راح يرسم لهما خارطة طريق لهجمةٍ مباغتة جريئة، فنصحهما بغلق الحدود، وتعطيل البرلمان وطرد الوزراء، وإرسال قطعات الجيش والقوى الأمنية التي ما زال فيها ضباط وجنود شرفاء وطنيون يتمنون خلاص أهلهم من هذه الكوابيس، مرفوقةً بمئات الآلاف من الشباب التشرينيين المتطوعين لاعتقال القتلة واللّصوص والمزورين، وقادة الميليشيات والفصائل الولائية المسلحة في ليلة واحدة، فيُريح ويستريح. أغلب الفرحين من العراقيين بقرب نهاية حركة نهضة راشد الغنوشي عاتبوا الرئيس العراقي برهم صالح وصديقه رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي، وطالبوهما بأن ينفُضا عن كاهلهما غبار المحاصصة. نعم إن ما بلغه الشعب التونسي في ظل هيمنة حركة النهضة، من فقر وذل وفوضى وقهر وتزوير كان كبيرا ولا يحتمل. ولكن الحاصل في العراق أكبر وأخطر بمئات المرات، ولا يقاس بأي وضع في أي بلد آخر. وقد يكون هذا سببا في اقتناع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي والرئيس برهم صالح بعدم جدوى ما يطلبه المعلقون. فالفاسدون في تونس ليسوا مسلحين بأحدث أنواع الأسلحة، وليس وراء ظهورهم دولة قوية وغنية كإيران التي أسست وأنشأت وموّلت وسلحت العشرات من الفصائل المسلحة، وتمكنت في عشر سنوات من التسلل إلى جميع مفاصل الدولة العسكرية والأمنية والمدنية، وزرعت فيها لها أنيابا وأظافر جاهزة للفتك بكل من يعارض احتلالها، بالقتل العمد، وبالحرق، وبتفجير المفخخات، وبالخطف والاغتيال. وهذه المقالة لا تدافع عنهما ولكن لتُنصفهما ولترفع عنهما هذا العتب المرير، وذلك لأن الذي حدث في تونس لا يمكن أن يتكرر في العراق، سواء كان برهم صالح أو الكاظمي في مكان قيس سعيّد. بل إن حدوثه في العراق الحالي من رابع المستحيلات، إلا في حالة واحدة، هي أن يَسقط النظام الحاكم في إيران، من داخله بانتفاضة شعبية كما حدث في العام 1979، أو من خارجه بتدخل القوى الدولية لنجدة الشعب الإيراني، والعراقي، واللبناني، والسوري، واليمني، تكفيرا عن ذنوبها السابقة، وتصحيحاً لأخطاء غزوها القديم بغزوها الجديد. والفروق التعجيزية بين عراق برهم والكاظمي وبين تونس قيس سعيّد كثيرة وكبيرة. فحين يدخل أستاذ جامعي لم يحترف السياسة إلى قصر الرئاسة بتفويضٍ حرٍ ونزيه من 72.53 في المئة من الناخبين مباشرة، فهذا يعني أن من حقه أن يتحدث باسم الشعب التونسي، ومن واجب العالم كله أن يصغي إليه. فهو لم يعيّنه برلمان ثلاثةُ أرباع نوابه دخلوه إما ببندقية ميليشيا، أو بحصة حزب، أو بأموال حكومة خارجية، أو بأوامر مرجعية دينية أو عشائرية. شيء آخر. إن تونس لا تُجاورها إيران التي تحتل ثلاثة أرباع الأرض العراقية، ولا تركيا التي تحتل ثلثها الباقي، ولا تصول فيه وتجول الولايات المتحدة وقطر وداعش والطرف الثالث الملثم المجهول. كما أن الشعب التونسي ملة واحدة وطائفة واحدة ومذهب واحد، رغم وجود أقلية عرقية غير كبيرة، ولكنها غير قادرة على أن تكون الجزءَ المعطل والمعرقل لمسيرة لمّ الشمل، كما هو حال العراق اليوم. وتاريخ الشعب التونسي يشهد بأن الأغلبية الشعبية التونسية أميَلُ إلى الدولة المدنية التي تفصل الدين عن الدولة، وأكثر حرصا على حرية الفكر والعقيدة، من أيام الراحل الحبيب بورقيبة. أما في العراق فهناك ملايين جاهلة مستغفَلة ما زالت تصدق بأن بُصاق واحدٍ معمم يشفي من كورونا. الصورة رهين أجندات الإقليم وفي العراق ملل وطوائف وقوميات وأديان لا يثق أيٌ منها بأخيه، وأحزاب وفصائل وكتل سياسية تتقاتل على المناصب والرواتب والمكاسب، وقبائل ومناطق تتشاجر بالرصاص الحي على ديك أو دجاجة، وترقص وتهلهل لسياسي زائر قاتل تقطر يداه بدماء أبنائها، أو سارق نهَب حليبَ أطفالها. كما أن تونس لم تعرف دوراً لرجل الدين يتعدّى المسجد أو الزاوية. وفي العراق، ومنذ سقوط النظام السابق بدبابات الغزو الأميركي، والمرجعية الدينية هي التي تقرر من يحق له أن يترشح للانتخابات، ومن يَنتخب، ومن يفوز. وهي التي تضع الدستور والقوانين، وهي التي تعيّن رئيسا للوزراء وتطرد آخر. وفي تونس جيش موحد ما زال مقيما على عهده في الدفاع عن الوطن لم تستطع السياسة والطائفية الدينية والعنصرية القومية والقبلية والمناطقية أن تلوّثه بشيء. فحين تكلم راشد الغنوشي مع الضابط الذي يحرس بوابة البرلمان المغلقة وطالبه بفتحها بذريعة أنه حلف اليمين على حماية الدستور رد عليه بهدوء وثقة، “ونحن، أيضا، حلفنا اليمين، ولكن على حماية الوطن”. وفي العراق جيش يتحلّق ضباطه الكبار ليلطموا، وبملابسهم العسكرية، وعلى شاشات التلفزيون. والآن، وبعد كل هذا، هل يحق لمعاتبٍ عراقي أن يطالب رئيس الجمهورية العراقية أو رئيس الوزراء بما لا يستطيعه الإسكندر المقدوني أو هولاكو أو طرزان؟ إبراهيم الزبيدي كاتب عراقي
مشاركة :