إنّ الله تعالى قَدَّر في حكمه جرَيانَ الليل والنهار، وتعاقبَ الأيام والشهور والأعوام، وارتبطت الأشهر القمرية بعبادات المسلمين، واقتران تاريخهم بها، وأولُ الشهور في العام الهجري شهرُ الله المحرم الذي سُمِّي بذلك تأكيدًا لحرمته، قال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ»، ثلاثة منها متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّم، وواحد منفصل عنها؛ وهو شهر رجب، ويسمى رجب الفرد. وشهر محرم وإنْ لم يُخَصَّ بفريضة من الفرائض إلا أنَّ له من المكانة والمنزلة التي تجعل منه فرصةً سانحةً للمنافسة في الخيرات، والمتاجرة مع الله تعالى، ومع هذه الشهر نَقِفُ بعض الوقفات: الأولى: إنه مَطلع العام، والمسلم دائمًا ما ينظر في عمله ويراجع نفسه، لينظرَ ما قدّم لغده، وذلك في كل يوم وأسبوع وشهر وعام؛ ليجدِّدَ العهد مع ربه، ويتوبَ إليه، من دونَ الالتزام بعبادة معيَّنة، أو كلمات أو عبارات وجمل شائعة بين الناس؛ درج بعضهم على تناقلها في نهاية العام، أو عند استقبال العام الجديد. الثانية: قول الله تعالى: «فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ»، قال قتادة: (العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحرم، والظلم فيهنّ أعظم من الظلم فيما سواهنّ، وإنْ كان الظلم على كل حالٍ عظيمًا)، والظلم بجميع أنواعه وصوره عظيم ومُحَرم، وأعلاه الشرك بالله، ثم الابتداع في دينه، ومنه ظلم النفس في معصية المولى، وظلم الآخرين بأخذ حقوقهم. الثالثة: يشرع في هذا الشهر الصيام، قال صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصِّيامِ، بَعْدَ رَمَضانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ، وأَفْضَلُ الصَّلاةِ، بَعْدَ الفَرِيضَةِ، صَلاةُ اللَّيْلِ)، والصيام عبادة جليلة، أجرها عظيم؛ فقد ادخر الله جزاء عمل الصائم عنده ولا عدَّ للصيام، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (مَن صامَ يَوْمًا في سَبيلِ الله، بَعَّدَ اللهُ وجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) متفق عليه. الرابعة: يتأكد الصيام في اليوم التاسع والعاشر من الشهر المحرم؛ قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (قَدِمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَومَ عَاشُورَاءَ، فَقالَ: ما هذا؟ قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذا يَوْمٌ نَجَّى الله بَنِي إسْرَائِيلَ مِن عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قالَ: فأنَا أحَقُّ بمُوسَى مِنكُمْ، فَصَامَهُ، وأَمَرَ بصِيَامِهِ)، وأما صيام التاسع فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ)، أي السنة التي تليها فلم يأتِ العام المقبل حتى تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما جاء في فضل صيام يوم عاشوراء: قوله صلى الله عليه وسلم: (وَصِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ). الخامسة: قول اليهود: (هذا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذا يَوْمٌ نَجَّى الله بَنِي إسْرَائِيلَ مِن عَدُوِّهِمْ)، يشير إلى الصراع بين الحق والباطل، وابتلاء أهل الحق، وأن الله ناصر رسله وأوليائه، والعاقبة لهم. السادسة: (فصامه موسى عليه السلام) فيه استشعار العبد نعمةَ الله عليه، وشكر الله له، بطاعته والتقرب إليه؛ فالله واهب النَّعم، ودافع النِّقم، وقد كانت نجاة موسى عليه السلام بمعجزةٍ خارقة؛ شق له البحر وتجاوزه، وأغرق الله فرعون ومن معه. السابعة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأنَا أحَقُّ بمُوسَى مِنكُمْ)، يؤكد أنّ الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى متفقون على تقرير العقيدة الصافية للناس، وإن اختلفت شرائعهم، ومن عقيدة المسلم توقير جميع الرسل وعدم التفريق بينهم؛ ففي هذا الموقف دليل على أخوة الأنبياء، وذِكْر بعضهم لمواقف بعض، وأن الانتساب إلى الأنبياء إنما يكون بموافقتهم في مقاصدِهم، لا مُجَرَّد الادِّعاء. إن محرم هذا العام سيشهد العمل بالتقويم البحريني لعام 1443هـ وِفْق المعايير الشرعية والعلمية والفلكية لتحديد الأوقات الشرعية للصلوات والمناسبات الدينية، وذلك تنفيذًا للتوجيه الملكي السامي من لدن حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدّى، وامتداداً للمنهجية التي وضعها علماء البحرين الأوائل التي وضع أصولها الحسابية والفلكية العلاَّمة السيد عبدالرحمن الزواوي، وقد أولى عناية خاصة لموضوع ضبط مواقيت الصلوات والأشهر الهجرية بإشراف اللجنة العُليا للتقويم البحريني التي تضم عددًا من علماء الدين والفلكيين والمُختصّين من مملكة البحرين. إدارة الأوقاف السنية
مشاركة :