الفن بين المقاصد والمصادفات

  • 8/12/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الطّابع اللّعبيّ للفنّ معقّد جدّاً، وكثيرُ المكوّنات والمفردات، ولعلّ «الصّدفة» من أطرفها. ولنا أن نقارب الصّدفة في الفنّ من جهتين: أوّلاً، من جهة آثار اختفت لأسباب عديدة وطواها النّسيان، أو غموض المصير لفترات تطول وتقصر ثمّ تتقشّع لبد النّسيان عن مصادفة تكشف مخبأها هنا أو هناك، وشواهد ذلك كثيرة منها، مثلاً فقط لا حصراً، لوحة «الفيلسوف» لفراجونارد Fragonard، تقود الصّدفة إلى اكتشافها بعد مائتي سنة. وإن كانت مصادفات الكشف عن مصائر آثار فنّية اختفت ولفّها الغموض هي غاية في الطّرافة والتّشويق، فإنّنا نكتفي في هذه الورقة بالتّنويه بمكانة الصّدفة من تركيبة الأثر وقد اندمجت في عناصره. الشّائع أنّه ليس للصّدفة الخالصة، في مجال الفنّ قيمة تُذكر بصفة عامّة، فهي استثنائيّة ليس إلاّ، بحيث يكون من السّذاجة التّعويل عليها هي فقط. ولكن مع ذلك فاستثنائيّتها هي المطلوبة ها هنا، فما قيمة الفنّ ما لم يكن استثنائيّاً! ولنا أن نلاحظ أنّ التّدبير الأستيطيقيّ للصّدفة بما هي توليفة عارضة بين أشياء معيّنة أو حالات أصبح يشتمل عليها مفهوم «الطّارئ» أو «غير المتوقَّع» aléatoire. وهو ما يمكن أن يحصل في تركيبات أو ممارسات فنّية جماعيّة، حيث يكون الحاصل أمراً طارئاً. وفي الجملة، يمكن تعريف الصّدفة، فلسفيّاً، على أنّها «تداخل بين سلسلتيْ أفعال سببيّة مستقلّة إحداهما عن الأخرى»، بحسب صيغة لكورنو أصبحت مشهورة. كأن يسقط سقف على شخص جالس تحته، فجلوسه حصل بفعل تسلسل سببيّ مستقلّ عن التّسلسل السّببيّ الذي أدّى إلى تآكل السّقف وانهياره. وتتعدّد ضروب الصّدف، لكن ما يعنينا منها، ها هنا، ضروب ثلاثة، أوّلها الصّدفة الخارقة تلك التي تحدث عندما يكاد الفنّان ييأس من استكمال عمله فتحدث كأنّها معجزة. وثانيها الصّدفة السّعيدة تلك التي تتحقّق كلُقية نادرة، وثالثتها الصّدفة «المبرمجـة» في تسمية مفارقيّة واضحة. فان غوغ بريشته فان غوغ بريشته إسفنجة الصّدفة وفرشاة القصد: يمكن أن نستحضر، فيما يخصّ الضّرب الأوّل، رمية الإسفنجة، الشّهيرة، المنسوبة إلى أكثر من رسّام يونانيّ في القرن الرّابع ق. م. لم يحفظ لنا التّاريخ، لسوء الحظّ، أعمالهم، مثل أبيل Apelle، الذي جسّم بحذق وبموهبة فائقة، وهو ذو موهبة مشهود لها، حصاناً يؤوب من التّدريب ولم يكن ينقصه إلاّ أن يكون حيّاً. ولكن عندما أراد أن يرسم رغوة منخريْه خذلته الفرشاة أكثر من مرّة عندما كان يعالج هذه الجزئيّة الطّفيفة واستنفدت مجهوده بلا طائل، فرمى بإسفنجة حذوه ملطّخة بكلّ الألوان عرض اللّوحة ليتخلّص منها في لحظة يأس. ويا للمفاجأة: تصيب الإسفنجة المنخرين مباشرة ويلوح عليهما المخاط الذي كان يسعى إليه منذ قليل! وتُعزى أيضاً هذه الرّمية اليائسة، جالبة الحظّ في آنٍ، إلى مواطنه بروتوجان Protogène الذي لم يكن يقلّ عنه موهبة ولم يستطع -في هذه الرّواية البديلة- أن يرسم مخاط كلبه فألقى مغتاظاً بإسفنجة على اللّوحة، وإذا بهذه الرّمية تشكّل ما عجزت عنه الفرشاة. وهكذا فإنّ ما كان الفن «عاجزاً» عن إتمامه يتكفّل به في رمية «إعجازيّة»، وهي كذلك لكونها تغلق أثراً على نحو كاد يكون غير مأمول، فإذا بها تسمح بتحقّق شيء كاد يكون في طيّ المستحيل. إنّها حركة «انتحاريّة» في حقّ اللّوحة تعيد إليها الحياة من حيث كان القصد إتلافها. الصّدفة السّعيدة: الفنّان الذي يعثر بغتة على دافع أو على طريقة تقنية تخصّ أثره من أجل الحصول على مقصده بحيث يغلب الظّنّ أنّ عمله كان ينبغي أن يكون هكذا فعلاً، وليس على نحو آخر، إنّما هو فنّان سعيد الحظّ. ولكن يجدر الانتباه إلى أنّ ما يجده الفنّان لم يكن سابقاً على عمله، كما هو الشّأن في التّجربة العلميّة، وإنّما هو موكول إلى لحظة ارتباك أو تردّد هي جزء من إنشائيّة الأثر نفسه، ولذلك نقرنها بالصّدفة. ولنستحضر، ها هنا، قصّة دافنشي مع رئيس مصلّى «سانتا ماريا ديلاّ غرازيا»، هذا الشّخص الملحف واللّحُوح الذي لا يكفّ عن إزعاج الفنّان وهو منكبّ على رسم لوحة «العشاء الأخير» بإحدى قاعات المصلّى، فيشتكيه لدى دوق المدينة في مقارنة بين بطء «عمل» دافنشي وهمّة عمّال حديقة المصلّى. فكانت المصادفة أن وجد الفنّان في هذا الشّخص موديلاً ليهوذا، وذاك ما كان ينقصه ليستكمل اللّوحة. فيكون الفنّان، عندئذ، هو ذاك الذي يبحث وهو عالق في الدّيمومة، والذي يعرف كيف يقتنص في الوقت نفسه ما تهبه له الصّدفة. ولكن من جهة أخرى لافتة بحقّ ما يقوله ليوناردو دافنشي فيما يمكن اعتباره تقريظاً للصّدفة «إذا نظرتَ إلى جدران ملطّخة ببُقَع كثيرة، أو مُشيّدة بأحجار متعدّدة الألوان، بفكرة أن تتخيّل فيها مشهداً ما، فإنّك تلقى فيها مثيلاً لمناظر ديكورها من جبال، وأنهار، وصخور، وأشجار، وسهول، ودروب عريضة، وهضاب من كلّ قبيل. وتستطيع أيضاً أن ترى فيها (..) ما لا يتناهى من الأشياء التي تستطيع أن تردّها إلى شكل واضح وتامّ». لافت بحقّ هذا الإيثار للصّدفة لأنّ عصر النّهضة معقود على احترام قواعد التّصوير والتّقيّد بضوابط المنظوريّة perspective. الصّدفة «المبرمَجة»: لم تصبح الصّدفة فاعلاً قصديّاً في الأثر الفنّي إلاّ في القرن العشرين عندما كفّت عن التّدخّل هامشيّاً أو أن تكون فقط ضمن الحالات العرَضيّة، وإنّما تمّ تكريسها ضمن ثوابت الإبداع بإقرار من الفنّان نفسه في مسعى منه نحو توازن حاذق من شأنه أن يجعل الصّدفة مستساغة. ومن ثمّة تكون الصّدفة ضرباً من الاختيار المعقود على توفير مناسبات تعلّق بالصّدفة الأمل في احتمالات لا يعرف الفنّان ما عساها تكون.. ولابدّ من التّنبيه إلى أنّ الأمر لا يجري على سبيل اللّعب بالصّدفة وإنّما بمعطياتها، ومثال ذلك ألعاب الحظّ، حيث كلّ لعبة تفترض خلق وضعيّة عدم انتظار على نحو مدبَّر وبخيارات مدروسة من دون أن يلغي الاختيار الطّابع الصّدفويّ للنّتيجة وإنّما يجعله ممكناً، فالفنّان لا يلعب بالصّدفة ولكن بمعطياتها مثل اللاّعب يتأرجح انتظاره بين وجه وقفا، أحمر وأسود، الجهات السّتّ لقطعة النّرد.. وعليه، فإنّ الدّور الموكول للصّدفة لا ينفصل عن مجموع القرارات التي تسمح للفنّان بأن يتموقع في علاقة طارئة ولكنّها هيكليّة في ما يخصّ نتيجة حركته. وذاك ما تبنّت له مدارس فنّية متنوّعة في القرن العشرين، من أوضحها الرّسم الحركيّ الذي يميّز أعمال الأميركيّ جاكسون بولّوك. فان غوغ لوحة «جذور» 27 يوليو 1890 فان غوغ لوحة «جذور» 27 يوليو 1890 الصّدفة مدخلٌ لتأويل الأثر: ويحدث أن تخترق مصادفة مضيئة عتمة التّأويل لتبين عن حيثيّة لوحة ما ومنشئها شأن اللّوحة الأخيرة لفان غوغ «جذور» حيث أعادت في السّنة الماضية نظرة عابرة إلى بطاقة بريديّة قديمةٍ لوحةَ هذا الرّسّام إلى رحمها الجغرافيّ الذي نبتت فيه تشكيليّاً، يقول «ووتر فون وين»، المدير العلميّ لمعهد فان غوغ، بأنّ الوضع كان وضع إغلاق [بسبب كوفيد] ولم يكن لديه ما يفعله، فشرع في ترتيب الملفّات. ومن بينها بطاقات بريدية لما بين 1900 و1910. لمنطقة «أوفيرز-سير واز» Auvers-sur-Oise، وفجأة وقع نظره على إحداها. ظاهريّاً لم تكن استثنائيّة، في صورة بالأبيض والأسود لطريق يعبرها شخص يجرّ درّاجته متعباً. على يمين الصّورة رأى حرْجة نبتت على جنب تلّة مع جذوع وجذور ظاهرة. سمّرت هذه الجذوع والجذور عينيه فقد استحضرتا اللّوحة التي كان فان غوغ قد رسمها سويعات قبل انتحاره. ولم يكن في حالة عَتَه -وكثيراً ما يصيـبه منه مسٌّ- بل كان في كامل وعيه، فحتّى يُنجز لوحة متكاملة التّركيبة لابدّ، حسب هذا الباحث، أن يكون متيقّظاً تماماً وكانت لوحته تلك حسب هذا الباحث «رسالة وداع ملوّنة»!

مشاركة :